الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }

قالوا: ربنا الله، هناك لَفْظاً رب وإله. ولكل لفظ منهما مجالٌ ومعنىً: فالربُّ هو الذي يربِّي ويخلق ويتعهَّدنا بالنعم والأفضال، ومنه قولنا: نربيه. يعني: نعطيه ما يُؤهله لمهمته، فالله ربٌّ خلق من عدم وأمدَّ من عُدم، وظل يأخذنا بحنان يُوضع لبعضنا في بعض، إلى أنْ نقوى ويشتد ساعدنا، ثم يكلفنا بعد ذلك تكليف الألوهية. إذن: فعطاء الربوبية عطاء عام يعمُّ المؤمنَ والكافرَ، والطائعَ والعاصي. فالله رَبُّ الجميع وَسِع فضله كلَّ خَلْقه، خلقك وخلق لك مقومات حياتك قبل أنْ يخلقك، وجعل لك عقلاً تُميِّز به وتختار بين البدائل، فإنْ أحسنتَ التصرف بعقلك فيما أعطاك من مقومات تأخذ ثمرتها، وإنْ لم تحسن فأنت الخاسر، إذن: عطاء الربوبية للجميع، والأسباب مُتاحة للجميع تعطي مَنْ يستحق العطاء حتى لو كان كافراً. ولذلك تجد في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما قال:رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ.. } [البقرة: 126] إذن: طلب الرزق فقط لمَنْ آمن، فصحَّح اللهُ له هذه المعلومة، وقال:وَمَن كَفَرَ.. } [البقرة: 126] لأن رزقي لكل خَلْقي، سواء آمن أو لم يؤمن لأنه خَلْقي وصنعتي، وأنا الذي استدعيتُه للوجود، فعليَّ رزقه وعليَّ مقومات حياته، هذا عطاء الربوبية. وسيدنا إبراهيم طرق بابه ليلاً طارقٌ يريد أنْ يبيتَ عنده، فسأله أولاً عن دينه، فعلم أنه غير مؤمن، فأغلق الباب في وجهه، فانصرف الرجل، وعاتب الله نبيه إبراهيم، وقال له: يا إبراهيم وسعتُه في مُلْكي ولم أقطع عنه رزقي مع كفره بي، وأنت تريد أنْ تغير دينه في ليلة تستضيفه فيها؟ فأسرع سيدنا إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به وأخذه في ضيافته فتعجب الرجل وقال: لقد جئتك فرددتني. فقال له: لكن ربي عاتبني فيك، فقال الرجل: أعاتبكَ ربك في شأني؟ قال: نعم، قال: فنعْم الربُّ رَبٌّ يعاتب أنبياءه في أعدائه، ثم قال: أشهد ألاَّ إله إلا الله، وأنك رسول الله. لذلك كثيراً ما نتعجَّب من عطاء الله الواسع لغير المؤمنين، وأن في أيديهم كلَّ نعيم الدنيا وزخرفها في حين يُحرم منها المؤمن، ولا عجبَ في ذلك لأن هذا عطاءُ الربوبية، وهؤلاء أحسنوا استغلالَ الأسباب فأعطتْهم، ولو أحسنتم أنتم كذلك لأعطتكُمُ الأسباب. واقرأ قول الله تعالى:وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً.. } [الزخرف: 33-35]. وتأمل، ما المعارج؟ هي المصاعد التي لم نعرفها نحن إلاَّ في القرن العشرين، أخبرنا القرآن بها قبل أربعة عشر قرناً، هذه من معجزات القرآن التي ينثرها علينا من حين لآخر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد