الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

سماه { كِتَابٌ.. } [فصلت: 3] لأن الكتاب تعني الجمع. والكتيبة جمع الجنود، فالكتاب تجمع الكلمات إلى بعضها، والكتاب يعني: مجتمع فيه أشياء، وفي القرآن اجتمع كل خير في الدنيا والآخرة، وهو كتاب لأنه مكتوب ومُسجَّل تستطيع أن تقرأه. ولذلك لما أرادوا جمع القرآن وضع الجامعُ مبدأ، وهو ألاَّ يكتب آية إلا إذا وجدها مكتوبة بالفعل على الرِّقاع أو العظام أو غيره، مما كانوا يكتبون عليه، ثم يشهد على صحتها اثنان من القراء، فهو كتاب لأنه مكتوب في السطور، وقرآن لأنه مقروء محفوظ في الصدور. الحق سبحانه وتعالى أراد بذلك كما قال الشيخ المرحوم محمد عبد الله دراز: أنْ تُذكِّر إحداهما الأخرى، فالمكتوب من المقروء يتعاونان في تسجيل كتاب الله تسجيلاً دقيقاً لا يتطرق إليه الشك. والدليل على ذلك أن جامع القرآن وجد آية مكتوبة، وطلب لها شاهدين فلم يجد إلا واحداً يشهد على صحتها فتوقف عن كتابتها، وكان هذا الشاهد هو سيدنا حذيفة رضي الله عنه، وجاء للكاتب مَنْ ذكَّره بحديث سيدنا رسول الله في شأن خزيمة حين قال: " من شهد له خزيمة فحَسْبه " فجعل شهادة خزيمة بشهادتين، وأخذ عنه الآية وكتبها. ولها قصة: قالوا " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد استدان مالاً من يهودي، وأدَّاه لَهُ دون شاهد بينهما، ثم جاء اليهودي مرة أخرى يطالب رسول الله بالسداد فقال له رسول الله: لقد أديتك. قال: لا، قال أدَّيْتُك، قال: إذن ابغني شاهداً، فقام أحدُ الصحابة وقال: أنا يا رسول الله شهدتُ ذلك، عندها سكن اليهودي لأنه كاذب. وبعد نهاية الموقف استدعى رسول الله الصحابي وقال له: كيف شهدتَ بذلك ولم يكُنْ معنا أحد؟ فقال له: يا رسول الله، كيف أُصدقك في خبر السماء وأُكذِّبك في كذا درهم.. نعم: نقول هنا نِعْمَ الاستنباط، لذلك استحق هذه المكانة من رسول الله " من شهد له خزيمة فَحَسْبُه ". ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ.. } [فصلت: 3] يقولون في الفعل فُصِّلت مبني للمجهول أو لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى هنا أن الله فصَّلها أولاً ففُصِّلت أي: صارتْ مُفصَّلة، فلما بلَّغها رسول الله للناس أصبحت هي مُفصَّلة لأمورهم ولأحكامهم. ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ.. } [فصلت: 3] لأن القرآن مُقسَّم ومُفصَّل إلى سور، كل سورة قائمة بذاتها، وداخل السُّور آيات، كل آية بذاتها، ففي السُّوَر الطويل والقصير، كذلك في الآيات تجد كلمة واحدة آية، وتجد آية من عدة أسطر، كذلك فصَّل الكلمات من حيث مادتها، كذلك فصَّل الحلال والحرام، وفصَّل الطاعة والمعصية، ألم يفصل بين الوعد والوعيد، بين الثواب والعقاب. لقد فَصَل القرآن بين كل هذه المسائل، أو فُصلت فيه كل آيات الكون إلى قيام الساعة، لذلك قالوا:

السابقالتالي
2 3 4