الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

هم يتعجبون كيف تشهد عليهم جلودهم وهي منهم، والسؤال هنا كان ينبغي أنْ يكون عن الكيفية: كيف شهدتم علينا لا عن السبب، فالسؤال بهذه الصيغة غير وارد ليدل هذا على التضارب في الكلام. وكان الجواب { قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ.. } [فصلت: 21] فالسؤال عن شيء والجواب عن شيء آخر فلو أجابوا عن السؤال: لم شهدتم علينا؟ لقالوا: شهدنا عليكم لأننا أقوى حارس عليك في جميع الأوقات { قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.. } [فصلت: 21] يعني: الأمر ليس بملكنا، نحن لم نشهد من عندنا، إنما أنطقنا الحقُّ بالحق، ولا حيلة لنا في هذا. ومعنى { ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.. } [فصلت: 21] أن كل شيء في الوجود له لغة خاصة به، لغة يتكلم بها، لغة تدل وتُفهم، كما رأينا في قصة سيدنا سليمان لما تكلمتْ نملة وحذَّرتْ قومها، وقالت:ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [النمل: 18]. ودَلّ قول النملة على أن للنمل لغة يتفاهمون بها، ودلَّ على يقظتها وعلى عدالتها في الحكم حين قالت:وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [النمل: 18]. كذلك حديث الهدهد في نفس القصة حين قال:أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [النمل: 22] ثم يتكلم بكلام في صُلْب العقيدةوَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ.. } [النمل: 24] فالهدهد ليس مجرد متكلم بلغة، إنما فاهم لأهمّ قضايا الإيمان ومسائل التوحيد. إذن: لكل شيء لغة، لكن لا يعرفها إلا مَنْ علَّمه الله وأطلعه على هذه اللغة، وهذا فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء، لذلك قال سيدنا سليمانعُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ.. } [النمل: 16] ولولا أن الله علّمه ما فهم عن الهدهد. كذلك في الجماد له لغة، كما قال تعالى:إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ص: 18]. لذلك يقول تعالى في إجمال هذه المسألة:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.. } [الإسراء: 44]. وورد أن الحصى سبَّح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن هذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وقلنا في تصويب هذه المسألة: أن الحصى مُسبِّح في يد رسول الله كما هو مُسبِّح في يد أبي جهل، فالصواب والمعجز أنْ نقول: سمع رسول الله تسبيح الحصى في يده، هكذا يكون الكلام. بعض العلماء يقول عن هذا التسبيح أنه تسبيحُ دلالة على خالقها لا تسبيحٌ على الحقيقة، وهذا كلام مخالف لنصِّ القرآن الكريم لأنه لو كان تسبيحَ دلالة كما تقول فقد فهمته والله يقول:وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.. } [الإسراء: 44] إذن: فهو تسبيح على الحقيقة، تسبيح بلغة لا يعلمها إلا خالقها، أو مَنْ علَّمه الله واختصَّه بمزيد من فضله.

السابقالتالي
2