الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

هنا وقفة لعلماء الكلام { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ.. } [فصلت: 17] الهُدَى هو الدلالة على طريق الخير الموصِّل إلى غاية خير، نقول دلَّه على الطريق، وحين تدل الناس منهم مَنْ يستمع لك ويطيعك، ومنهم مَنْ لا يستمع إليك، فالأول تزيده هداية وإرشاداً حتى يصل إلى غايته، والآخر تتخلى عنه. لذلك قال تعالى:وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17] أي: اهتدوا لطريق الدلالة. زادهم هدىً. أي: بالمعونة والتوفيق للعمل الصالح وكراهية عمل الشر، إذن: هناك هداية للدلالة، وهداية للتوفيق والمعونة. وهل تعين إلا مَنْ أطاعك وآمن بك؟ وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً برجل المرور الذي يقف على مفترق الطرق، وتحتاج إلى أن تسأله عن الطريق الذي تقصده، يقول لك: الطريق من هنا، فإن شكرته على صنيعه وتوجهتَ إلى الطريق الذي دلَّك عليه زادك إرشاداً وبيَّن لك ما في الطريق من عقبات أو مصاعب. وربما صحبك حتى تمرَّ من هذه الصعاب. فأنت سألته فدلَّكَ فاتبعْتَ دلالته وشكرته فقال: أنت أهلٌ لمعونتي وإرشادي، أما إنْ خالفتَ رأيه وسِرْتَ في طريق آخر غير طريق دلالته فلا بُدَّ أنْ يتخلى عنك، وأنْ يدعك وشأنك. كذلك الحق سبحانه وتعالى يدل الجميع على طريق الخير، كل الخلق دلَّهم الله، فمَنْ أطاع في هداية الدلالة كان أهلاً للزيادة، وأهلاً لهداية المعونة والتوفيق، ومَنْ عصى وخالف في هداية الدلالة لم يكُنْ أهلاً لهداية المعونة. كذلك كان شأن ثمود { فَهَدَيْنَاهُمْ.. } [فصلت: 17] هداية دلالة { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ.. } [فصلت: 17] أي: استحبُّوا العمى عن فعل الخير، لأنهم ارتاحوا للمخالفة وأرادوا الخروج من قيود التكاليف الشرعية، وإلا لماذا عبدوا الأصنام وهم يعلمون ما هي، وصنعوها بأيديهم؟ عبدوها لأن في عبادتها إرضاءً للنفس بأنْ يكون لها إله تعبده، وما أجملَ أنْ يكون هذا الإله بلا تكاليف وبلا منهج بافعل ولا تفعل، إذن: مشقة تكاليف الطاعة وحلاوة إتيان المعصية تأتي من التكليف، فإن وُجدَ إله بلا تكاليف مالتْ إليه النفس وأحبته، لأن ذلك يُرضِي غريزة الفطرة الإيمانية في الإنسان، وهو أن كلَّ إنسان آمن بالعهدة الأول في مرحلة الذرأَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.. } [الأعراف: 172]. إذن: فبضعة الإيمان في كل إنسان موجودة فيه من عهد الذر، ولكن يختلف الناسُ في قبول التكاليف والمنهج، فمن الناس مَنْ يرى في المنهج قيْداً لشهواته، فلا يرتاح إليه ويسعى إلى التديّن الخالي من التكليف كهؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى، ومن الناس مَنْ يحب الهداية والطاعة ويرتاح إلى المنهج ويأنس به. وتأمل قوله تعالى: { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ.. } [فصلت: 17] استحبَّ غير أحب. استحبَّ يعني: تكلّف حبه، وهذا دليل أنه شيء لا يُحبّ أصلاً وطبيعة.

السابقالتالي
2