الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ }

وُصِفَت ريح العذاب هنا بأنها صرصر هكذا من مقطعين صرصر، وهناك صِرّ مقطع واحد. وهي الريح الشديد المزعج الذي يهدد ويكون فيه برودة شديدة، والبرودة من شأنها شدة الرطوبة التي تُجفف إلى درجة الإحراق. وهذه الظاهرة يعرفها الفلاحون في فصل الشتاء عندما يشتد البرد لدرجة أنه يحرق الزرع. وهكذا يجمع اللهُ فعلَ النار في الماء لأن الحق سبحانه لم يخلق الكون بحركة ميكانيكية ثابتة، إنما خلقه بصفة القيومية التي تجمع بين الأضداد، أرأيتم لموسى عليه السلام حينما ضرب بعصاه الماء، فصار كل فِرْقٍ كالطوْد العظيم، وجمع الله بين الشيء ونقيضه في وقت واحد، كذلك ضرب الجبل فانفجرتْ منه اثنتا عشرة عيناً، وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام ألقاه القوم في النار، فجعلها عليه برداً وسلاماً، وعطَّل فيها قانون الإحراق. فالصّر هي الريح الشديد المزعج، لكن يهبُّ لمرة واحدة، فإنْ تكرر فهو صرصر { فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ.. } [فصلت: 16] النحس: هو الشؤم، وحينما يأتي اليوم بشيء من الشر يتشاءمون منه، وكما قال في موضع آخر:سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً.. } [الحاقة: 7] يعني: حاسمة تستأصلهم، وتنتهي منهم. أي: سبع ليالٍ وثمانية أيام حاسمة، حسمتْ الجدل بين الرسل وبين المكابرين المعاندين. وفي الشعر العربي قال الشاعر:
أَوْقِدْ فَإنَّ الليلَ ليْلُ قَرّ   والريح يا غُلامُ رِيحٌ صرُّ
عَلَّ يَرَى نَارَكَ مَنْ يمُرُّ   إنْ جَلَبْتَ ضَيْفاً فَأنتَ حُرّ
{ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. } [فصلت: 16] هناك عذاب يؤلم، وعذاب يخزي ويهين المتكبر، ليس الغرض منه الإيلام، إنما الإهانة والخزي والذلة، لأنه تكبَّر بلا رصيد ذاتي عنده، ولو عذَّبناه عذاباً يؤلم ربما تحمّل الألم، لذلك نعذبه عذاباً يخزيه ويُرغم أنفه ويهدم كبرياءه، فالخزي في تأديب النفس أقوى من الإيلام في الحسِّ. ومعلوم أن من الناس مَنْ يؤذيه الاستهزاء به والسخرية منه أكثر مما يؤلمه الضرب الحسي. وهذا الخزي وهذه الإهانة { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. } [فصلت: 16] أمَّا الآخرة فلها شأنٌ آخر في الآخرة أخزى، لأن الخزي في الدنيا له وقت ينتهي فيه. أمَّا في الآخرة فخزيٌ دائمٌ باقٍ فهو مُعذَّب وخزيان { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ.. } [فصلت: 16] لأنه دائم مستمرٌّ { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } [فصلت: 16] يعني: لن يأخذ أحد بأيديهم، ولن ينجيهم من العذاب شيء، فلا أملَ لهم في النصرة، فهم لا ينصرون ولا يردُّون. لذلك قلنا في الحشر: إن الحق سبحانه يحشر الناسَ جميعاً مرة واحدة، لا يكونون على هيئة طابور مثلاً، كلٌّ ينتظر دوره، إنما يُحشرون جميعاً بعضهم مع بعض، الظالم والمظلوم، والتابع والمتبوع، وهو يقطع أملَ الكافرين في النجاة، فربما انتظروا قادتهم لينقذوهم لذلك قال تعالى في شأن فرعون:يَقْدُمُ قَوْمَهُ.. } [هود: 98] أي: يتقدمهم ويسبقهم إلى النار.