الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } * { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }

تكلم الحق سبحانه عن خَلْق الأرض، وأخبر أنه خلقها في يومين، فهل معنى هذا أن خَلْق الأرض استغرق مُدَّة يومين بيومنا نحن؟ لا، إياك أنْ تظنَّ أن خَلْق الأرض استغرق يومين، أو أنه كان معالجة تحتاج إلى وقت. فالمسألة كما تقول مثلاً: أريد أنْ أصنع الزبادي عندي في البيت، فأقول لك: هات اللبن وضَعْ عليه المادة المعروفة لعمل الزبادي، ثم اتركه في درجة حرارة معينة بمدة معينة، وبعدها يصير اللبن زبادي بعد عدة ساعات مثلاً، فهل يعني هذا أن صناعة الزبادي استغرقتْ منك عدة ساعات؟ لا بل دقائق أعددتَ فيها المادة وتركتها تتفاعل لتصبح زبادي. مثلاً حين تذهب للخياط ليخيط لك ثوباً، يقول لك: تعالَ خُذْه بعد أسبوع، فهل استغرق الثوب في يده أسبوعاً؟ كذلك مسألة الخَلْق هذه. وبعد أنْ خلق اللهُ الأرض جعل فيها الرواسي، وهي الجبال الراسية الثابتة المستقرة، والتي بها تستقر الأرض، كما قال سبحانه:وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [النبأ: 7] ولو أن الأرضَ مستقرةٌ بطبيعتها ما احتاجتْ إلى الجبال، إذن: دلَّتْ الرواسي على أن الأرض تدور، فهذا دليل على دوران الأرض. { وَبَارَكَ فِيهَا.. } [فصلت: 10] قلنا: البركة أنَّ الشيء يعطي من الخير فوق مظنَّة حجمه وفوق المنتظر منه، كأن تجدَ الطعام مثلاً الذي تظنه يكفي خمسة يكفي لعشرة فتقول: فيه بركة. وقوله { وَبَارَكَ فِيهَا.. } [فصلت: 10] في أي شيء؟ في الأرض حيثُ ذُكِرت أولاً؟ أم في الجبال وهي آخر مذكور؟ قالوا { وَبَارَكَ فِيهَا.. } [فصلت: 10] أي: في الرواسي { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا.. } [فصلت: 10] أي: في الجبال أيضاً. وقد أثبت الواقع ذلك، وأثبت العلم أن الجبال هي مصدر الخير لباقي الأرض، ومنها عناصر الخصوبة والغذاء الذي لا بدَّ منه لبقاء حياة الكائن الحي، ومعلوم أن العناصر في التربة تنقص وتحتاج إلى مَدَد وتجدُّد من حين لآخر. وهذا ما يحدث فعلاً، حين يسقط المطر على الجبال فيفتت قشرتها، ويحمل السيل هذا الفتات ويسير به ليوزعه على الأرض المسطحة المنزرعة، كما في طمي النيل زمان وقبل بناء السد العالي، هذا الطمي من أين جاء؟ من منابع النيل في أعلى الجبال. وكنا نرى ماء النيل مثل الطحينة، ويظل كذلك إلى المصبِّ في البحر المتوسط، ومن هذا الطمي نشأت الدلتا، فالبحر كان يمتد حتى دمياط، والآن انظر لما بين دمياط ورأس البر مثلاً. كذلك الحال في الوديان حول الجبال، حيث تؤثر عوامل التعرية في القشرة الخارجية من الجبال، ويجرفها السيل إلى الوديان، فتجدد التربة وتزداد خصوبتها، فكأن الجبال بالفعل مخازن قوت البشر، لذلك قال عنها { وَبَارَكَ فِيهَا.. } [فصلت: 10]. وتأمل أيضاً الحكمة والهندسة الكونية العالية، فالجبل قاعدته أسفل وقمته أعلى على عكس الوادي بين الجبلين، فرأس المثلث فيه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى، وكلّ عام يأتي المطر ليأخذ من قمة الجبل ويعطي لقاعدة الوادي، وكأنه تجدد واتساع للوادي يناسب الزيادة البشرية.

السابقالتالي
2 3 4