الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ }

الحق سبحانه يعود بنا مرة أخرى إلى مسألة الخلق الأول { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ.. } [غافر: 67] معلوم أن لنا خَلْقين: خلقاً من تراب لما خلق الله آدم وحواء، وخلقاً من النسل الذي تناسل منهما. لاحظ أن الله تعالى قال { مِّن تُرَابٍ.. } [غافر: 67] وقالمِّن طِينٍ.. } [الأنعام: 2] ومِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26] وقالمِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } [الرحمن: 14]، وهذه كلها مراحل للشيء الواحد، فالتراب حين نضع عليه الماء يصير طيناً، فإذا تركناه فترة تعطّن وتغيَّرتْ رائحته، وهذا هو الحمأ المسنون، فإذا تركناه يجف يصير صلصالاً. وقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ.. } [غافر: 67] لا يعني آباءنا آدم وحده، إنما كلنا من تراب حتى مَنْ خُلِقوا بالزواج والتناسل، لماذا؟ لأن الميكروب الذي ستنشأ منه جرثومة الرجل وبويضة المرأة إنما تأتي مما نأكله من طعام، والطعام يُؤخذ إما من نبات أو حيوان، والنبات والحيوان منشؤهما تراب الأرض. ولذلك رأينا في عملية التحليل الكيماوي لعناصر الإنسان أنها هي نفسها عناصر التراب، وهي العناصر الستة عشر المعروفة، فكَوْنُ الإنسان خُلِق من طين لها دليلٌ مادي معلوم لنا الآن، إذن: كلنا من تراب، وإنْ جئنا من زوجين، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم لآدم، وآدم من تراب ". لذلك الحق سبحانه لما تكلم عن الخَلْق قال:مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ.. } [الكهف: 51] لأن خَلْق السماوات والأرض سابقٌ على خَلْق الإنسان، والإنسان طارئ عليهما، ولما خُلِق آدم لم يكُنْ له تمييز ليعرف كيف خُلق. ثم يأتي سبحانه بكلام يدل على الإعجاز وإفحام المعاندين، فيقول:وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51]. يعني: ما أخذت منهم مساعدين لي، ولا معينين لي في عملية الخلق، والمضلون هم الذين يُضللون الناس، ويقدمون لهم الباطل في ثوب الحق، ويُراد بالمضلين المضلين في مسألة الخلق كمَنْ يقول لنا الآن: إن الإنسان في أصل خَلْقه الأول كان قرداً وتطور كما قال داروين. لكن الحق سبحانه يقطع عليهم طريق الضلال، ويقول لهم: أنتم ما شهدتم الخَلْق لتخبروا الناس به، وأنا الخالق وحدي ولم يكُنْ معي أحدٌ غيري خبر بما حدث، فإذا أردتُم أنْ تعرفوا كيفية الخلق فاسمعوا مني أخبركم به، وقد أخبرنا الله به في آيات كثيرة في كتابه. فإنْ قلت: هذا كلام أخبر الله به ولم نشهده، نقول: تأمل واقع الحياة فإنه يدلّ على صدق الله فيما قال، فأنت لم تَرَ الخَلْق لكن رأيتَ نقيضه وهو الموت، ونَقْض الشيء يأتي على عكس بنائه، فحين تبني مثلاً بيتاً من أربعة أدوار تبدأ بالأول، فإنْ أردتَ أنْ تهدم تهدم الرابع. كذلك الموت، يبدأ بخروج الروح وهي آخر شيء في خَلْق الإنسان بعد خروج الروح يتصلَّب الجسد، ثم يرمّ ويتغيَّر مثل الجيفة، ثم يتبخَّر منه الماء الموجود فيه، ثم يتحلل الباقي إلى تراب، فجاء الموت ليصدق ما غاب عنك في بداية الخَلْق.

السابقالتالي
2