الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }

حَقَّتْ أي: وجبتْ وثبتت ولم يأت واقع لينقضها، لماذا؟ لأن الذي قالها يعلم ما يكون بعدها، وخاصة إذا كان الذين يعملون لهم اختيار في أنْ يعملوا أو لا يعملوا. فالله تعالى قالها وحكم بها عليهم وهم في بحبوحة الدنيا وفي زمن الاختيار، ومع ذلك لم يخالفوها، وهنا موضع العظمة في كلام الله، العظمة أنْ أتحداك في أمر لك فيه اختيار، ومع ذلك لا تخرج عما حكمت عليك به. ومثل هذا قلناه في قوله تعالى في شأن أبي لهب وزوجته:تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [المسد: 1-5]. فالحق سبحانه وتعالى حكم عليهما بالكفر، وأن مصيرهما النار مع أن الإيمان والكفر أمر وكَلَ اللهُ اختياره للعبد بدليل أن أمثال أبي لهب من كفار مكة أسلموا مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة وغيرهم، وكان في إمكان أبي لهب بعد أن نزلت هذه السورة أنْ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقولها ولو نفاقاً، لكن لم يحدث وصدق فيه قول الله تعالى. وهذه المسألة شرحها الحق سبحانه في قوله:وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.. } [الأنفال: 24] فقلبه يُحدِّثه بالشيء إنما العظمة الإلهية تحوله عنه. لذلك قال تعالى لأم موسى:فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ.. } [القصص: 7] فالقياس العقلي لا يقبل هذا الحل وأي عاقل يقول: إن المرأة إذا خافت على وليدها تلقيه في البحر؟ لكن هنا أم موسى لم تسمع لصوت العقل ولا تأثرتْ بعاطفتها نحو وليدها، إنما سمعت لقول ربها، سمعت لهذا الوارد الأعلى الذي لا يعارضه أيُّ وارد شيطاني أسفل فلم تتردد أبداً في أنْ تلقي بوليدها في البحر، لأن الله تعالى حَالَ بينها وبين عاطفة قلبها. كذلك الحال في قصة سيدنا موسى مع فرعون، فقد أخبر الكهنة فرعون أن زوال مُلْكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل، فماذا فعل فرعون - لتعلموا كيف كانت عقلية الذين ادَّعَوْا الألوهية، وكيف أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، ماذا فعل فرعون؟ راح يبحث عن الأطفال ويقتلهم، وهو لا يعلم أن الله يدَّخر له هذا الغلام فيأتيه ويطرق بابه وهو في مهده على الهيئة التي تعرفونها، ومع ذلك يطمئن إليه ويتخذه ولداً له، وتقول زوجتهقُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ.. } [القصص: 9] فيأخذه ويُربِّيه في بيته، هذا معنىوَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.. } [الأنفال: 24]. إذن: فقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [غافر: 6] ما حقتْ عليهم بقهر وجبروت، إنما حقَّتْ عليهم باختيار منهم، والحق سبحانه وتعالى بعلمه الأزلي علم اختيارهم، فحكم عليهم بسابق علمه فيهم، ولا يمكن أنْ يأتي واقعٌ يخالف هذا الحكم لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله.

السابقالتالي
2