الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ }

الرسول صلى الله عليه وسلم جاء رسولاً من عند الله بما يُخرج الجاهلية إلى مقام العلم عن الله، وبذلك تتطهر حركة حياتهم من كل ما يعطي في الكون ذبذبة أو كلّ ما يعطي في الكون تعانداً حتى يصير الكون كله متسانداً متعاضداً، بحيث لا يبني واحد ويهدم الآخر، فيقول سبحانه: { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [غافر: 4]. الجدل: إبرام الشيء إبراماً حقيقياً بحيث يستحيل أنْ ينقض، وهذه المسألة مثل عملية فَتْل الحبال عندنا في الفلاحين، حيث يأخذ الرجل شعيرات التيل المعروف ويظل يبرم فيها، إلى أنْ تتداخل الشعيرات وتتماسك وتتداخل، لذلك نرى الحبل قوياً متيناً. وسُمِّي المراءُ بين الناس جدلاً، لأن كل واحد من الطرفين يريد أن يُحكِّم منطقه وحجته ليغلب الآخر، فكلٌّ منهم يجادل لحساب نفسه، صاحب الحق يجادل لإظهار حقه، وصاحب الباطل يجادل ليُحِقَّ باطله. أي: يُظهره في صورة الحق. لكن هل الجدل مذموم في ذاته؟ لا، لأن الجدل بحسب الغاية منه لذلك يقول تعالى:وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46] فدلَّ ذلك على أن في الجدل ما هو حسن وأحسن، والجدل الحسن هو الذي يسعى لإيجاد الحجة على أن الحق حق والباطل باطل، فإنْ كان العكس فهو جدل باطل مذموم. لذلك نفهم من قوله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [غافر: 4] أن هذا هو الجدل الباطل لأن الجدل يكون عنها لا فيها، يجادل عنها أي: يدافع عنها ليثبت صدقها ويُظهر الحق الذي جاءتْ به، أما يجادل في الآيات. أي: يحاول التشكيك فيها وتكذيبها. وقلنا: إن آيات الله على ثلاثة أنواع، وهذه هي التي يحدث فيها الجدل: الآيات الكونية التي تشهد بوجود الخالق الأعلى سبحانه، والآيات البينات المعجزة التي تثبت صدق الرسول في البلاغ عن ربه، والآيات القرآنية التي تحمل الأحكام. فالآيات الكونية التي تثبت قدرة الله الخالق الأعلى سبحانه هي التي نشاهدها في الأرض وفي السماء، في الشمس والقمر والنجوم والماء والهواء.. إلخ وهذه الآيات أوجدها الخالق سبحانه على هيئة الصلاح، وعلى قانون ثابت لا يتخلف، ولا دَخْلَ للإنسان في حركتها. وسبق أنْ قلنا: إن الفساد في الكون يطرأ من تدخل الإنسان وامتداد يده إلى مخلوقات الله بغير قانون الله الذي خلق، ولو تدخَّل الإنسان في الأشياء بقانون الخالق ما رأينا هذا الفساد الذي يعمّ الكون الآن لذلك يوضح لنا الحق سبحانه هذه القضية، فيقول:وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [الأعراف: 56]. والمعنى: أن الحق سبحانه خلق الأرض على هيئة الصلاح، فإياكم أنْ تفسدوها لذلك يرجع الحق سبحانه الفساد الحادث في الأرض إلى الناس، فيقول:

السابقالتالي
2 3 4 5 6