الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } * { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

يوم الأحزاب كان في الدنيا، أما يوم التناد فيوم القيامة، فكأنه حذَّرهم بيوم الأحزاب من المصائب التي تأتيهم في دنياهم، ثم حذرهم بيوم الجزاء يوم القيامة فقال: { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } [غافر: 32] والتناد تفاعل يعني: تناديني وأناديك، والتنادي يوم القيامة سيكون من وجوه عدة، يقول تعالى:يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء: 71] وهذا أول نداء، يقول: يا أمة محمد، يا أمة عيسى، يا أمة موسى.. إلخ أو أن ينادي بعضهم بعضاً. وقد ذكر الحق سبحانه صوراً متعددة من هذه النداءات، فقال سبحانه:وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [الأعراف: 44]. وقال:وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ.. } [الأعراف: 50]. وقال:وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ.. } [الأعراف: 48] وأصحاب الأعراف جماعة استوت حسناتهم وسيئاتهم ولم يدخلوا الجنة، ومع ذلك يشمتون في الكفار. أو: أن التناد ليس من مناداة بعضنا لبعض، إنما هو من الفعل ندَّ يعني: بعُد وشرد، يعني: يوم التناد يوم تشرد مني وأشرد منك، وهذا مثل قوله تعالى:يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } [عبس: 34-36] والمراد: يفر منهم وهم كذلك يفرون منه، فكلٌّ يهرب من الآخر لانشغاله بنفسه. لكن ماذا يقصد الرجل المؤمن بذلك؟ قالوا: يريد أن يقول لهم: إنْ كنتم تظاهرون بعضاً على الباطل في الدنيا فاعلموا أنكم ستفرون من بعض في الآخرة { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [غافر: 33]. وتأمل هنا حبكة الأداء القرآني، فحينما يأتي بلفظ يحمل معنيين أو يجمع بين معنيين يأتي بما يدل على كل منهما، فهنا مثلاً قال { يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } [غافر: 32] بمعنى المناداة. وقال: { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [غافر: 33] بمعنى الفرار، فجمع بين المعنيين في كلمة التناد. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الرحمنٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6] فالشمس والقمر مخلوقات علوية، والشجر أرضي وبينهما كلمة النجم ولها معنيان: الأول: المتبادر إلى الذِّهْن هو النجم العالي في السماء من جنس الشمس والقمر، والآخر النجم بمعنى: العُشْب الذي لا ساقَ له، وهو جنس الشجر. وقوله: { مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [غافر: 33] مِنْ عَاصِمْ يعني: لا أحد يستطيع أن يمنعكم من الله، ولا يدفع عنكم بأساً إنْ نزل بكم { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [غافر: 33] يعني: من يحكم الله بضلاله لا يهديه أحد، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى سيعينه ويُمكنه من الضلال. لذلك قلنا: إذا أحبَّ العبدُ شيئاً قال الله لعبده: أحببته يا عبدي سأبليك به، كمن مات له عزيز مثلاً فحزن عليه حزناً شديداً وبالغ فيه واستمرأ الحزن، فيقول الله له: أحببتَ الحزن وعشقته، سوف أزيدك منه، كلما تقادم جددته لك.

السابقالتالي
2