الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ }

يعني: ألم يقفوا موقف المشاهد لآثار الأمم المكذِّبة وهم يمرون بهم في رحلة الشتاء والصيف، كما قال سبحانه:وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الصافات: 137-138] ألم تروا مدائن صالح وقرى عاد وثمود وغيرهم ممَّنْ كذَّب الرسل؟ إن آثارهم تدل على أَخْذ الله لهم، وعلى العقاب الذي نزل بهم فخذوا منهم عبرةً، واعلموا أن مصيركم كمصيرهم، ولن تُعجزوا الله في ذلك، لأن هذه الأمم التي أخذها الله كانت أشدَّ منكم قوة وآثاراً في الأرض، أأنتم أشد من إرم ذات العماد، وفرعون ذي الأوتاد.. أين هم الآن؟ هل استطاعوا رغم حضارتهم حماية هذه الحضارة؟ إن قوتهم وحضاراتهم لم تُغْنِ عنهم من الله شيئاً، ونزل بهم عذاب الله في الدنيا قبل عذاب الآخرة ولم يمهلهم. لذلك قال سبحانه لرسوله:فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77] يعني: إذا لم تَرَ ما نعدهم من العذاب في الدنيا ومتَّ قبلهم فسوف ترى عذابهم في الآخرة. كما قال سبحانه في موضع آخر:وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [السجدة: 21]. والحق سبحانه يريد من سيْرنا في الأرض أمرين: سياحة في الأرض للاعتبار وأخذ العظة، وسياحة الانتفاع والاستثمار، إذن: فالسياحة في الأرض والسير فيها مطلوب إيماني، لذلك قال تعالى في سياحة الاعتبار: { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } [غافر: 21] وقال في سياحة الاستثمار:قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ.. } [العنكبوت: 20]. وقال:إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا.. } [النساء: 97]. إذن: لا مانع أن تجمع في سَيْرك في أرض الله بين سياحة الاعتبار وسياحة الاستثمار والانتفاع، فلا تحرم نفسك من نظرة الاعتبار في خَلْق الله الجديد عليك، ولا تُلهِكَ التجارة والاستثمار عن الاعتبار. وهنا ملحظ في قوله تعالى: { فِي ٱلأَرْضِ.. } [غافر: 21] هذا الملحظ أخذناه من العلم الحديث أخيراً، فقد كان العلماء يفسرون { فِي ٱلأَرْضِ.. } [غافر: 21] على الأرض أي: الأرض والتربة التي نمشي عليها، إلى أن عرفنا مؤخراً أن الأرض تشمل غلافها الجوي، فهذا الهواء الذي فوق الأرض هو العنصر الأساسي والضروري لاستمرار الحياة عليها، وبدونه لا تكون على الأرض حياة، لأن الإنسان لا يستغني عنه بمقدار شهيق أو زفير، وعليه فنحن نسير في الأرض كما جاء نصّ القرآن الذي سبق العلم الحديث إلى هذه الحقيقة. وحين تسير في أرض الله للاعتبار بمخلوقات الله ترى ألواناً شتى لم تَرَها من قبل من الناس والأماكن والمزروعات والنعم التي لا تُحصى، وتعلم أن الخالق سبحانه يعطي لكل مكان ما يناسبه، ولكل بيئة ما يصلح لها من الغذاء، لذلك تجد بعض المزروعات تجود في أماكن دون أخرى، فبيئة يكثر فيها الموز مثلاً، وأخرى يكثر فيها البطاطس، وأخرى القمح.

السابقالتالي
2