الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }

مادة نزل وردتْ في القرآن بصيغ عدة: أنزلنا، نزَّلنا، تنزيل، نزل. وكلها تعطي معنى العلو للذي نُزِّل، وصفة العلو تدل على أن المنزَّل ليس من صُنْع البشر، وتدل على عظمة المنزَّل ومنزلته، حتى إنْ كان من جهة الأرض لا من جهة السماء، كما قال تعالى في الحديد:وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. } [الحديد: 25]. ومعلوم أن الحديد يُستخرج من الأرض لا ينزل من السماء، فالمعنى: أنزلناه على أنه هبة العالي للأدنى، ولا بدَّ أن يكون الأعلى أعظم من الأدنى. ونقول ذلك حتى في الأحكام والقوانين حين نريد أنْ نشرع ونُقنِّن القوانين. لا تتركوا قوانين الأعلى وتأخذوا بقوانين الأدنى، لأن المقنِّن الأعلى سبحانه غير المقنِّن من البشر، فمهما بلغ من العلم والحكمة فلن يخلو من هوى ولن يتنزَّه عن غرض، فإنْ كان من الأغنياء يُقنِّن للرأسمالية، وإنْ كان فقيراً قنَّن للشيوعية. لذلك يُشترط فيمن يُقنِّن ألاَّ يكون له هوىً، وألاَّ يكون منتفعاً بما يقنن، وأنْ يكون محيطاً بالأمور كلها بحيث لا يستدرك عليه ولا ينسى جزئية من جزئيات الموضوع، وهذه الشروط كلها لا تتوفر إلا في الحق سبحانه، لذلك لا يجوز لنا أن نترك قانون الله وشرعه ونتحاكم إلى قانون البشر. لذلك تعرَّض الإسلامُ لحملات ضارية وانتقادات من غير المسلمين كان آخرها الضجة التي أثاروها في الفاتيكان على الطلاق في الإسلام، لأنهم قننوا لأنفسهم بعدم الطلاق، لكن الطلاق في الإسلام مَنْ شرعه؟ الله لا البشر. إذن: فهو الصواب وغيره خطأ، لأنك لا تستطيع أبداً أنْ تديمَ علاقة بين زوجين يكره كل منهما الآخر وهو مأمون عليها وهي مأمونة عليه؟ كيف تحكم عليَّ أن أعيش مع امرأة لا تثير غرائزي. إذن: شُرِع الطلاق في الإسلام لحكمة، لأن المشرِّع سبحانه أعلم بطبائع الخَلْق، ومرتْ الأيام وألجأتهم أقضية الحياة ومشاكل المجتمع لأن يُشرعوا هم أيضاً الطلاق، ما أباحوه لأن الإسلام أباحه ولا محبةً في دين الله ولا إيماناً بشرع الله، إنما أباحوه لأن الحياة فرضتْ عليهم قضايا لا تُحلُّ إلا بالطلاق. وهذه المسألة هي التي أجبنا بها حين سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى:يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [الصف: 8] وقال:هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]. يقولون: مرَّ على الإسلام أربعة عشر قرناً من الزمان وما يزال أغلب الناس غير مسلمين، والإسلام ليس هو الدين الغالب بل مُهدَّد ومُحارَب. قلنا: لو تأملتم معنى الآية لعرفتم أن إظهار الدين لا يعني أن يؤمن كل الناس، إنما يظهر على غيره من الشرائع والقوانين ويضطر غير المسلمين لأنْ يأخذوا بالإسلام في حَلِّ قضاياهم، وقوله تعالى:

السابقالتالي
2