الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً }

وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إذن فأمة سيدنا محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمناً طويلاً، لكننا نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين ". ولذلك لم يقل الحق في هذه الآية: سوف ندخلهم. بل قال: { سَنُدْخِلُهُمْ.. } [النساء: 57]، أما مع الآخرين فاستخدم سبحانه " سوف " لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة، المسألة ليست بعيدة، بل قريبة لذلك يعبر عنها: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ.. } [النساء: 57]. إن كلمة " الجنة " مأخوذة من " الجَن " ، والستر، و " الجَنّة " هي البستان الذي به شجر إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير البساتين الزهرية التي تخرج زهراً قريباً من الأرض تمثل ترفاً للعيون فقط، أما الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يُستر، ففيها الاقتيات وفيها كل شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن مَنْ عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود، والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله وبمشيئته مشهداً، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " مصداق ذلك في كتاب اللهفَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17]. ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت " ، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن: فدائرة الإدراكات تأتي أولاً: بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع. وبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا خطر على قلب بشر " أي أن ما في الجنة أكبر من التخيلات، إذن: فكم صفة هنا للجنة؟ الأولى قوله: ما لا عين رأت. والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية: قوله: ولا أذن سمعت.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7