الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً }

والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من قبل: إنني عندما أقول: " فلان أكاَّل " قد يختلف المعنى عن قولي: " فلان آكل " ، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل كثيراً في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات، فبدلاً من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له: " أكَّال " ، أي أَنّه أكثر عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها. أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية، فيأكل بدلاً من الرغيف أربعة، فنقول: إنه " أكول " ، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد. إن قولك: " الله توَّاب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة؟ هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة. والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة أن قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول: " لم أكن أعلم " لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب، وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرِّع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانوناً، لا عن تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع. إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة - مثلاً - إنه سبحانه وضع حداً للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني لذلك فالحد موجود، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد أن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حداً، لماذا؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان. لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملاً أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث، وحين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح أن تفعلها، ولذلك لم يضع لها حداً أو تجريماً، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حداً لهذه المسألة.

السابقالتالي
2 3