الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

وسبحانه قال من قبل: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ.. } [النساء: 14] والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي. فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم. لكن ماذا عمَّنْ يعصي؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أنَّ له العذاب. { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [النساء: 14]. هنا نجد " ناراً " واحدة، وهناك نجد " جنات ". هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق: نيراناً، ولم يقل الحق أيضاً: " خالدين " لماذا؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضاً إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصّر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق - سبحانه - يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنان مع بعضها وهذا أدعى للأُنْس. ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحداً وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضاً، فكل واحد في ناره تماماً مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب آخر. إذن فهناك " جنات " و " نار " و " خالدين " و " خالداً " ، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعاً في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالداً { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [النساء: 14]. إن العذاب يكون مرة أليماً، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو   أني لِرَيْبِ الدهر لا أتضعضع
فيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك مَنْ يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا - إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد. وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أباً، ووحدته أماً، وعالجت كيف بث الله منهما رجالاً كثيراً ونساء. وعالجت السورة أيضاً ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاماً ضعافاً، وأنّه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7