الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }

وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثاً، فقد كان يكفي أن يقول لنا ما سبق. لكنه يريد أن يحسم مثل هذه الأمور فلا مجادلة في الذين يختانون أنفسهم. والجدل كما نعرف هو الفتل. وحين يفتل الإنسان شيئاً، مثل أن يحضر بعضاً من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلاً، فهو يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلاً للشد والجذب، ولذلك يقال عن مثل هذه العملية: إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة. وكذلك شأن الخصمين كل واحد منهما يريد تقوية حجته، فيحاول جاهداً أن يقويها بما يشاء من أساليب ليّ القول ولحنه أو الفصاحة في الأسلوب. لذلك يأتي الأمر إلى الرسول: لا تقو مركز أي إنسان يختان نفسه. والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى " يختانون أنفسهم " ، فلا بد أن لهذا معنى كبيراً لأن الخيانة هي أن تأخذ غير الحق. ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أَمِنَ المعقول أن يخون الإنسان نفسه؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان غيره من أجل مصلحة نفسه، أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة، وهذه خيانة للنفس لأن الإنسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة. وهكذا نرى أن الذي يخون الناس إنما يخون ـ ضمناً ـ مصلحة نفسه. وإذا ما خان الإنسان نفسه فهذا ليس سهلاً ويتطلب افتعالاً، ولذلك يقول الحق: { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }. والآية التي تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لم تأت بكلمة " خوانين " ولكن جاءت بالخائنين، وهنا يأتي الحق بكلمة خوَّان. وفيه فرق بين " خائن " ، و " خوَّان " ، فالخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوَّان فتصدر منه الخيانة مراراً. أو يكون المعنى هو: أن الخائن تصدر منه الخيانة في أمر يسير صغير، أما الخوّان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير. إذن. فمرة تأتي المبالغة في تكرير الفعل، وأخرى في تضخيم الفعل. ومن لطف الله أنه لم يقل " خائن " لأن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى الأمر، ولم يخرجه الله عن دائرة الستر إلاَّ إذا أخذ الخيانة طبعاً وعادة وحرفة. وقد جاءت لسيدنا عمر - رضي الله عنه - امرأة أخذ ولدها بسرقة، وأراد عمر - رضي الله عنه - أن يقيم على ذلك الولد الحد، فبكت الأم قائلة: يا أمير المؤمنين والله ما فعل هذا إلا هذه المرة. قال عمر: كذبت. والله ما كان الله ليأخذ عبداً بأول مرة.

السابقالتالي
2