الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

بعد أنْ حَنَّنَ الحق سبحانه الخَلْق بذكر الربوبية التي خلقت وربتْ، وأمرتْ، وبذكر الألوهية التي ضمنتْ صلاح البلاد والعباد، بيَّن سبحانه أنه الغني عن خَلْقه، فقال تعالى: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [الزمر: 7] يعني: غني عن إيمانكم ولا تنفعه طاعاتكم. فهو سبحانه جعل التكاليف لصلاح حالكم لا لمنفعة تعود عليه سبحانه، فأنتم خَلْقه وصَنْعته، والصانع يريد أنْ يرى صنعته على أحسن حال، يرى العبد المؤمن في المجتمع المؤمن الذي تتساند حركته لا تتعاند، وتتفق توجهاته لا تتضارب، الخالق سبحانه لا يحب أنْ يرى خَلْقه يتصارعون، واحد يبني والآخر يهدم. إذن: هذا هو الهدف من الخَلْق ومن المنهج لأن الله تعالى بصفات الكمال فيه خلق الخَلْق، ولم يُزدْه الخَلْق صفة واحدة لم تكُن له من قبل، إذن: لا حاجة له إليكم. إنما أنتم صنعته ويريد لكم الخير لذلك لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أنْ يحملْنها وأشفقْنَ منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جَهُولاً. وإباء السماوات والأرض والجبال ليس امتناعاً على الله، ولا اعتراضاً إنما تسليم لأن الله خيَّرهم فاختاروا أنْ يكونوا مُسيَّرين. لكن الإنسان قَبِلها فحكم الله عليه بأنه كان ظلوماً وجهولاً، لكن كيف يُوصَف مَنْ قَبِلَ كلام الله بأنه ظلوم وجهول؟ قالوا: لأنه ظلم نفسه وجهل ما يكون منه، لأنه مخلوق مختار له أنْ يؤمن، وله أنْ يكفر، وله أنْ يطيعَ وأنْ يعصي، ولما عُرِضَتْ عليه الأمانة قبلها لأن الله هو الذي خيَّره. ووثق بنفسه وقدرته على الأداء، لكنه جهل ما يطرأ عليه وما يجدّ من أحداث وأهواء، فظلم نفسه عند التحمُّل وجهل بوقت الأداء، وأسرع في وقت الرضا والقبول، وكان ينبغي عليه أنْ يحسب حسابَ الإنجاز والأداء. وفَرْق بين التحمُّل والأداء في مسألة الأمانة، لأن الأمانة موكولة إلى ذمة المؤتمن، ولو كتب بها إيصالاً أو كان عليها شهود ما سُمِّيتْ أمانة، والإنسان عادة يُقبل على تحمُّل الأمانة وفي نيته أداؤها، كما لو أنك أعطيتَ صديقاً لك مبلغاً من المال يحفظه لك، لحين عودتك من السفر مثلاً، فتراه يرحب ويقبل لكن تعِنّ له ظروف، وتمتد يده إلى هذا المال، وربما جئت فلم تجده، وعندها إما ينكر أو يماطل. إذن: ظلم نفسه، وجهل وقت الأداء، وجهل أنه ابنُ أغيار، ونفسه متغيرة، أما السماوات والأرض والجبال لما خُيِّرتْ اختارت أنْ تكونَ مُسيَّرة، لا دخْلَ لها بهذه المسألة فاخذت الأمر من قصيره. ومعنى قوله تعالى: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [الزمر: 7] واضح في الحديث القدسي: " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتْقَى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخِيْطَ إذا أُدخل البحر، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له كُنْ فيكون ".

السابقالتالي
2 3