الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }

الإسراف هو تجاوز الحدّ، نقول: فلان مسرف يعني: يتجاوز الحدَّ في الإنفاق بما لا يتناسب مع دخله، وهؤلاء أسرفوا على أنفسهم ولم يقل: أسرفوا لأنفسهم. إنما أسرفوا عليها. مما يدلّ على أن هذا الإسراف يجر عليهم الوبال، فهو إسراف في المعاصي والذنوب والعياذ بالله. قلنا: الإسراف تجاوز الحدّ، الحد إنْ كان بعد أمر فلا تتجاوزه، وإنْ كان بعد نهي فقال لا تقربه مجرد القرب منه لذلك يقول تعالى في الأوامر:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229] يعني: قفْ عندها. أما في النواهي فيقول سبحانه:تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187] لأن قربك من الشيء يغريك به. وكما ورد في الحديث الشريف: " مَنْ حام حول الحِمَى يوشك أنْ يُواقعه ". لذلك حينما نهى الحق سبحانه سيدنا آدم عن الأكل من الشجرة لم يقل له: لا تأكل منها، إنما قال سبحانه:وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [الأعراف: 19]. لذلك تجد أن لفظ الاجتناب أقوى من لفظ التحريم وأشدّ، وعجيبٌ أنْ نسمع من الذين يسرفون على أنفسهم يقولون: لم يردْ لفظ يحرم الخمر في كتاب الله، نقول: كيف وقد ورد ما هو أشدّ من التحريم وهو الاجتناب في قوله سبحانه:إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91]. لأن معنى فَاجْتَنِبُوهُ يعني: ابتعدوا عنها بالكلية فجانبوا مجلسها، وجانبوا شاربها، وجانبوا بائعها، وجانبوا ناقلها.. إلخ فهذا أبلغ في التحريم من قولنا لا تشرب الخمر، بدليل أن القرآن استخدم لفظ الاجتناب في قمة الإيمان العقدي، فقال سبحانه:فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } [الحج: 30]. فإذا تناولنا الإسراف في الإنفاق نجد أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن تسير حركة الحياة في المجتمع الإيماني حركة متوازنة متساوية تتوسط في الأمور، بمعنى أنك تعرف دخلك ورزقك الذي يسوقه الله إليك، والله لا يريد منك أن تقبض هذا الرزق وتمسكه فلا تنفق منه، ولا يريد منك أن تنفقه كله أو تسرف فيه بل يريد الوسطية، كما بيَّن سبحانه:وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67] فالإسراف والتقتير كلاهما مذموم منهيٌّ عنه، فمَن اتخذ سبيلاً غير سبيل الوسط أضرَّ بنفسه وبالمجتمع، لأنه إنْ أمسك المال قلَّتْ قوة الشراء وقوة البيع في الأسواق، ويترتب على ذلك ركود في الحركة التجارية والصناعية وبوار للسلع وكساد في السوق. وإنْ أسرف وبذَّر فأنفق كل دَخْله لم يجد شيئاً يدخره لينمي به حياته ويُحسِّن من مستواه ويرتقي بحياته، وعندها يلوم نفسه لأنه يرى غيره يرتقي ويُرفّه حياته وهو لا يستطيع.

السابقالتالي
2 3 4