الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ }

قوله تعالى: { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } [الزمر: 51] أي: السابقون الذين قالوا هذه الكلمة من قبل، أصابهم ونزل بهم ما كسبوا من السيئات، يعني: هم فعلوه بأنفسهم، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون { وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ } [الزمر: 51] أي: المعاصرين { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } [الزمر: 51]. والمعجز هو الذي يعمل عملاً يتحداك به، وتعجز أنت عن الإتيان بمثله لذلك نسمي آية صدق الرسل في البلاغ عن الله معجزةً، لأنها أعجزتْ المكابر المكذِّب، أما الذي آمن بمجرد البلاغ وصدَّق به فلا يحتاج إلى معجزة، والمعجزة يُشترط لها أن تكون مقرونة بالتحدي، لماذا؟ قالوا: لأنك حين تتحدَّاه وتخبره أنك ستعمل عملاً لا يقدر هو عليه فإنك بذلك تشحن مواهبه ليستعدَّ للمواجهة، وعندها تستطيع أن تقيم عليه الحجة، أما إنْ فاجأته بالتحدي فله أنْ يقول لك: والله لو فكرت في المسألة، أو لو كانت في بالي لفعلتُ. إذن: معجز يعني يصيب الغير بالعجز عن مجاراته. وقلنا في المعجزة: إنها ينبغي أن تكون من جنس ما نبغ فيه القومُ، ومناسبة للعصر الذي نتحدى فيه، لأنك لو تحديتَ قوماً بشيء لا علمَ لهم به ولا دُرْبة لكان لهم أنْ يقولوا: لو كنا نعلم هذا لفعلناه، وإلا لما كان للتحدي موضع. وقد أعطانا القرآن الكريم نموذجاً للتحدي حينما تحدّى العرب وهم أهْلُ اللغة وأرباب الفصاحة والبيان، تحدَّاهم أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، وحين نتأمل هذا التحدي نجده يتدرج تنازلياً، وكلما تنازل في تحدّيه يعلو في إعجازه، لأنه لأول ما تحدَّاهم تحدَّاهم بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة من مثله. ليس هذا وفقط، إنما يُخرِج التحدي من الإنس إلى الجن لأن العرب وإنْ كانوا أمة كلام وفصاحة إلا أنهم نسبوا للجن قدرةً أعلى على الفصاحة والبلاغة، بدليل أنهم إذا نبغ منهم شاعر وأجاد قالوا: إن الجن يُوحى إليه بهذه المعاني، واعتقدوا أن هذا الجن يسكن وادي عبقر كما يقولون. لذلك أخرج القرآن التحدِّي من دائرة الإنس إلى دائرة الجن، فقال سبحانه:قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88] أي: معيناً ومساعداً. لذلك كانت معجزة سيدنا موسى عليه السلام نوعاً من السحر، لأن قومه نبغوا فيه، وكانت معجزة سيدنا عيسى أنْ يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، لأن قومه نبغوا في الطب. وكلمة { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } [الزمر: 51] أي: في الهرب والإفلات من العقوبة، لأنهم فعلوا أشياء تستحق العقوبة، فإذا أخذناهم للعقاب فلن يُعجزونا. يعني: لن يفلتوا منا لأن المسألة بالنسبة لنا قد يكون غريمك في يدك وفي نفس مكانك، وقد يهرب منك إلى مكان آخر، لكن بالنسبة للحق سبحانه فهو في كل مكان، وإلا فدلَّني على مكان ليس فيه الله سبحانه وتعالى، إذن: كيف الهرب؟ وإلى أين؟! فإنْ تواجدتم معه فلن يعجز عنكم، وإنْ هربتم فلن يعجز عن الإتيان بكم.