الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

رأينا المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى وقالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلْفى.. إذا ما طرأ لهم طارئ أو جَدَّ في حياتهم شيء فوق طاقة أسبابهم لا يلجئون الأصنام، ولا إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله، إنما يلجئون إلى الله ويضرعون إليه سبحانه ليكشف عنهم ما هم فيه، وليرفع عنهم البلاء، لماذا؟ لأن هذه هي الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، والعهد الذي أخذه الله علينا جميعاً ونحن في عالم الذرِّ حين قال سبحانه:أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172] والإنسان لا يخدع نفسه ولا يسلمها، فإذا أحاط به شر لا تنهض الأسباب لدفعه قال: يا رب وعندها ينسى كبرياءه، وينسى عناده، وينسى تكذيبه للرسل ولا يجد إلا ربه وخالقه وإلهه الحق. وصدق الله:وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } [الإسراء: 67]. ونلحظ أيضاً أن الإنسان حينما يقع في كرب لا يقدر على دفعه بنفسه ينادي مَنْ حوله، فإذا لم يُجِبْه أحدٌ يقول يا هوه، ومعناها: يا هو يا مَنْ ليس هناك غيره، والمراد الله سبحانه وتعالى. وقوله { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ } [الزمر: 49] أي: أعطيناه { نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الزمر: 49] يعني: إنْ أعطيناه نعمة بعد هذا الضر الذي مسَّه سرعان ما ينسى ويعود إلى صَلَفه وغروره الحياتي، لأنه يخاف أن مسألة رفع الضر عنه تُقربه من ربه الذي دعاه، وأن هذا الجميل الذي ساقه إليه ربُّه يعيده إلى الجادة وإلى الاستقامة. فالاستقامة تكاليف ومسئولية هو يكرهها، ولا يريد أنْ يُقيّد نفسه بها، لأن التكليف معناه مَنْع النفس عن شهواتها، وحملها على الطاعات فهو يخاف أن تأسره هذه المسألة، أو تقيد حريته في الشهوات، لذلك قال الحق سبحانه عن الصلاة:وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } [البقرة: 45]. وقوله: { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [الزمر: 49] لها وجهان: إما على علم من الله أنِّي أستحق هذا الخير وإلا ما أعطاني - هذا إنْ كان يعتقد أن الله هو الذي يعطي - أو على علم مني، لأن عندي دقَّةً في التعامل ويقظة، وعندي تجربة ودراية بالأمور ودراسة للنتائج. وهنا يصحح له ربه { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ.. } [الزمر: 49] يعني: هذه النعمة فتنة من الله، فلا هي لعلم الله أنك تستحق، ولا هي نتيجة لعلمك ومهارتك { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ.. } [الزمر: 49] يعني: ابتلاء واختبار. كما قال سبحانه:وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] نبلو بالشر لنرى مَنْ يصبر، ونبلو بالخير لنرى مَنْ يشكر ومَنْ يطغى. وفي موضع آخر قال تعالى:وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }

السابقالتالي
2