الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ }

نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى مرة يتحدث عن ذاته سبحانه بضمير الجمع إنَّا ومرة بالمفرد إني أو إنني، فإنْ كان الكلام في قضية التوحيد جاء بالضمير المفرد كما في قوله سبحانه لسيدنا موسى:إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [طه: 14] لأنه يريد أنْ يقرر قضية التوحيد، ويؤكد سبحانه أنه إله واحد لا شريك له. فإنْ كان الكلام عن أمر لله فيه عمل ولخلفائه في الأرض عمل يأتي بالجمع كما هنا { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ } [الزمر: 41]. وتأملوا حرف الجر في عليك وفي للناس فلحروف الجر في اللغة معَانٍ واسعة، كلمة عليك تدلُّ على أنني أحملك المسئولية أمَّا اللام في للناس فتدلّ على النفع لهم، كما نقول في الحسابات: له، عليه، فله تعطي نَفْعاً وعليه تعطي تبعات. فكأن الحق سبحانه يقول: يا قوم يا مَنْ تسمعون لدعوة محمد اعلموا أنها لصالحكم وتعود عليكم بالنفع والغنيمة، فقد أنزلنا عليه حملاً ثقيلاً سيتعبه في ذاته وفي أهله، وسيُعرِّضه للسخرية والإيذاء والتآمر.. الخ. فالكتاب نزل عليك يا محمد بتبعاته ومسئولياته، فتحمله وكُنْ من أولي العزم من الرسل الذين سبقوك، مع أنهم أخذوا حيِّزاً محدوداً في الزمان وفي المكان، أما أنت فأخذتَ حيِّزاً غير محدود، لا في الزمان ولا في المكان، فحين تتحمّل المشاق في سبيل دعوتك، فاعلم أنك ستتحمل من الشدائد على قدر عموم رسالتك. إذن: فدعوة الإسلام خيرها لكم ومتاعبها يتحملها رسول الله، هذا معنى { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ } [الزمر: 41] أي: في صالحهم. وحين نُوسع الحروف ونقف على معانيها نأخذ مثلاً قوله تعالى في أول سورة البقرة:أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 5]. فالمؤمنون على الهدى، و على تفيد الاستعلاء وكأنه مطيّة تحملهم وتريحهم لا تتعبهم وتُوصِّلهم إلى غايتهم، هكذا جاء الهدى ليريح الناس ويحملهم إلى أشرف الغايات، فالزموه لأنه ما جاء ليُحملكم ما لا تطيقون، إنما جاء ليخدمكم. وقوله سبحانه: { بِٱلْحَقِّ } [الزمر: 41] الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، والحق يعني وضع الشيء في موضعه، فإذا زحزحتهُ عن موضعه فأنا الطارئ عليه، والحق لا بُدَّ أنْ يعود إلى موضعه مرة أخرى، وإنما هي ابتلاءات واختبارات لنُمحِّص جنود الحق لتكون عندهم الأهلية لأنْ يحملوا الدعوة إلى أنْ تقوم الساعة. والحق سبحانه يعلمنا: إنْ رأيتَ الباطل علا وارتفع فخُذْ لك واقعة، وخُذْ لك عبرةً من الأشياء المحسَّة التي تقع تحت بصرك في أصل الحياة وهو الماء، فالماء ينزل من السماء على قمم الجبال فيأخذ معه إلى الوديان القش والحصى والزبد، فتتكون طبقة كم الريم تعلو الماء وهي حقيرة لا قيمةَ لها حتى إذا ما هبَّتْ الرياح أزاحتْ هذا الزبد هنا وهناك وبقيتْ صفحة الماء نظيفة ناصعة، هكذا يكون علو الباطل عُلواً مؤقتاً، وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه.

السابقالتالي
2