الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }

هنا تأمل هذا النداء: { يٰقَوْمِ } [الزمر: 39] فبعد عنادهم وإصرارهم على باطلهم وعدم قبولهم للحجج والبراهين ما يزال الحق سبحانه يتحنَّن إليهم، فيأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يناديهم بهذا النداء الحبيب: يا قوم يعني: أنا لستُ غريباً عنكم، وأنتم أهلي وعشيرتي التي أعيشُ بينها. لما دعاهم رسول الله فلم يستجيبوا ولم تفلح معهم الحجج والبراهين التي تثبت بطلان عبادتهم للأصنام، أمره ربه أنْ يقول لهم: { يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ.. } [الزمر: 39] معنى: اعملوا على مكانتكم كما تقول لمن لم يستجب لك: اعمل ما بدا لك. أو أعلى ما في خيلك اركبه. فالمعنى: اعملوا على مكانتكم. يعني: خذوا كلّ إمكانياتكم ضدي. لماذا؟ لأنه متوكل على ربِّه وهو كافيه، فهو لا يقولها مجازفةً ولا استكباراً، إنما يقولها برصيد من قوله تعالى:أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36]. وكلمة { مَكَانَتِكُـمْ } [الزمر: 39] عندنا مكان ومكانة، المكان هو: الحيز الذي يشغله الشيء. والمكين هو: الذي يشغل المكان، فالكوب مثلاً مكان والماء فيه مكين، فأنت ذاتك لك مكان تشغله حتى لو اضطهدك أحدٌ فأخرجك منه لا بُدَّ أنْ يذهب بك إلى مكان آخر. فإذا اتسع بك هذا المكان وصارتْ لك سلطة على مكان أوسع منه لك فيه سلطان وأمر ونهي فهذه مكانة، فيقال لمن اتَّسع جاهه وسلطانه: له مكانة. فالتاء الزائدة هنا يسمونها تاء المبالغة. كما نقول في المبالغة في العلم عالم وعلاَّم وعلاَّمة. فكلمة علاَّمة هي قمة العلم وتُقال لمن بلغ في مجاله مبلغاً بحيث لا يخفى عليه منه شيء. فإنْ قلتَ: فلماذا وصف الحق نفسه سبحانه بعلاَّم، ولم يُوصَف بعلامة؟ نقول: لأن علم الله تعالى لا تفاوتَ فيه، ليس فيه جزئي وكلي، فلا يُوصف الحق سبحانه بهذه الصفة. ومن المكانة قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام:وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } [يوسف: 56] أي: لم نجعل له مكاناً، إنما جعلنا له مكانة وسلطاناً واسعاً ينقله هنا وهناك حيث يشاء، والإنسان يكون له مكان فتأتي قوة تُمكِّنه في المكان، كما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقد يكون له المكان فتأتي قوة فتُزيله عنه كما أخذني ورماني في زنزانة. وسبق أنْ قلنا: إن في اللغة همزة تسمى همزة الإزالة، إذا دخلتْ على فعل تزيله، كما تقول: أعجم الكلام، يعني: أزال عُجْمته وأبان معناه، ومن ذلك قول رسول الله في مناجاته لربه: " لك العُتْبى حتى ترضى " يعني: إن كان حصل منه شيء يغضبك فأنا أزيل عتابك عليَّ حتى أبلغ رضاك عني. ونقول: عتب فلانٌ على فلان فأعتبه يعني: أزال عتابه بأنْ يعتذر له أو يصالحه، لأن العتب لوْم على شيء ما كان يصح بين المحبين ومن ذلك قوله تعالى في الكلمة التي معنا المكانة:

السابقالتالي
2 3