الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } * { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }

الاستفهام في { فَمَنْ أَظْلَمُ } [الزمر: 32] يحمل معنى التعجب والإنكار يعني: لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله، فلو كذب على غير الله لكان منكراً، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها. إذن: فالكذب على الله خيبة، وإنْ كنت ولا بُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب. لذلك جاء لفظ { أَظْلَمُ } على وزن أفعل التي تدل على المبالغة، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله، لكن مَنْ ظلم؟ أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه؟ بل ظلم نفسه. ولم يقف الأمر عند هذا بل { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [الزمر: 32] لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا: إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً. ثم يستفهم الحق - سبحانه وتعالى - وهو أعلم: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [الزمر: 32] يعني: ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به. وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة، منها:وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44-47]. إذن: مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابي فيها أحد حتى الرسل، لذلك جاء بلاغه صلى الله عليه وسلم عن ربه دقيقاً، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات، إنما يبلغ المقولات ذاتها، واقرأ قوله تعالى:قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لقومه: الله أحد. وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربهقُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] فذكر الأمر بأنْ يقول قل. والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى، ونقول: هذا ليس كلامَ بشر، بل هو كلام الله وقرآنه، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه. أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك ليُبلِّغ عنك قضية مثلاً وقلتَ له: اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية، لكنه حين يقول: أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها، إذن: لو حُذِفَتْ كلمة قُلْ فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن، لا كلمة زائدة عليه.

السابقالتالي
2 3