الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } * { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ }

الحق هو الأمر الثابت الذي لا تأتي أغيار الزمن فتنقضه، وما دام الحق ثابتاً لا يتغير فلا يغرنك عُلُوُّ الباطل إنْ علا يوماً من الأيام لأن عُلُو الباطل من ثبات الحق، فالباطل حين يعلو يعضُّ الناسَ، ويشقى به الخَلْقُ، ويكتوون بناره، وعندها يتطلعون للحق ويتشوَّقون إليه. فكأن الباطل جندي من جنود الحق، والكفر جندي من جنود الإيمان. فالله تعالى لا يسلم الحق أبداً، ولكن يتركه فترة حتى يعلوَ الباطلُ عليه ليبلوَ غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا عليه غار هو عليه. { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ } [الزمر: 2] يعني: ما دُمْنا قد أنزلنا إليك الكتاب بالحق فانظر ماذا في الكتاب، فيه منهج افعل كذا ولا تفعل كذا، فيه تكليفٌ للجوارح، ولابُدَّ أنْ يسبق العمل بالتكليف اقتناعُ القلب بالمكلف والإيمان به. فأنت حين تقف أمام قضية صعبة تعجز عن التفكير فيها، أو أخذ قرار تذهب إلى مَنْ شُهِد له بالحكمة أو العلم والرأي ليفكر لك ويُعينك على أمرك، فمثل هذا الرجل تأتمنه وتسلم له زمام أمرك لأن رأيه يصلحك. إذن: لا بُدَّ قبل العمل بافعل ولا تفعل أنْ تثقَ وتتيقن بمن كلَّفك، وهذا هو الإيمان الذي ينبغي أنْ يسبق العملَ. لذلك نقول: لا ينفع إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان، واقرأ قول الله تعالى:قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14]. لذلك قال تعالى: { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 2] فشرْطُ العبادة الإخلاص، والعبادة تعني طاعة العابد لأمر معبوده ونَهيه، وهذا التحديد لمعنى العبادة يُبطل عبادةَ كلِّ ما سِوَى الله تعالى، فالذين عبدوا غير الله من شمس أو قمر أو نجوم أو أشجار أو أحجار عبدوا آلهة - كما يزعمون - بلا منهج وبلا تكاليف. إذن: فكلمة العبادة هنا خطأ وهي باطلة، فماذا قالت لهم هذه الآلهة؟ بِمَ أمرتْهُمْ وعَمَّ نَهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها؟ وماذا أعدت لمن كفر بها؟ فأول ما يُبطل عبادة غير الله أنها آلهة بلا منهج وبلا تكاليف. أما الذين قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] فالله سبحانه نهى عن هذه الزُّلْفى، ونهى أنْ يكون بينه وبين عباده واسطة أو وسيلة. ثم إن الحق سبحانه أراد أنْ ينبه الخَلْقَ إلى بديع صُنْعه، وإلى هذا الكون المكتمل، وهذه الهندسة الدقيقة في كل جزئياته، وأن هذا الكون فيه كل مُقوِّمات الحياة وكل الأنواع الواهبة للخير، فهل ادعاه أحد لنفسه؟ هل قال أحد: إني خلقتُ هذا الكون مع كثرة الملحدين والمنكرين لوجود الله؟ لم يحدث أبداً شيء من هذا. إذن: الدعوة تثبت لمدعيها طالما لم يقم لها معارض، فالله تعالى هو الخالق وحده، وهو المستحق للعبادة وحده، وما دونه ضلال وباطل.

السابقالتالي
2 3 4