الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } * { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

حينما نتتبع لفظ مَثَل في القرآن الكريم نجده مرة بصيغة مِثْل، وهي تفيد تشبيه شيء بشيء مفرد كما تقول: زيد في شجاعته مثل الأسد، الرجل في كرمه مثل الغيث، ومن ذلك قوله تعالى:فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ.. } [البقرة: 23] وهي تفيد تشبيه صورة مُنتزعة أو مُكوَّنة من عدة أشياء بصورة أخرى مُكوَّنة من عدة أشياء يعني: تشبيه حالة بحالة. ومن المثل في القرآن مَثَلُ الحياة الدنيا في قوله تعالى:وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45]. فالحياة الدنيا ليست تشبه الماء وحده، إنما ماء نزل من السماء واختلط بتراب الأرض فأخرج النبات لكن سرعان ما يهيج ثم يصفر ثم يجف ويتفتت، حتى يصير هشيماً تذروه الرياح، كذلك حياة الإنسان في الدنيا، تزهو لك الحياة ثم تنتهي بالموت، هذه صورة تمثيلية مُكوَّنة من عدة أمور تشبه عدة أمور أخرى، وما دامت الدنيا على هذه الصورة فاحذروها، ولا تركنوا إليها ولا تغترُّوا بها. ومن الصور التمثيلية في القرآن أيضاً قوله تعالى في الذين حُمِّلوا التوراة، ثم لم يستفيدوا منها:مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً.. } [الجمعة: 5]. فهؤلاء ليسوا كالحمار وحده، بل كالحمار الذي يحمل الكتب، ولكنه لا يفهمها، والحمار ليست مهمته أنْ يفهم إنما مهمته أنْ يحمل، أما هؤلاء فمهمتهم أنْ يحملوا وأنْ يفهموا ما حملوه، وبذلك تميّز الحمار عنهم. ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى:مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ.. } [الفتح: 29]. تأمل هذا المثَل، تجد الحق سبحانه مثَّل محمداً وصحبه في التوراة بمثَل معنوي عبادي، لأن اليهود تغلب عليهم الماديات، وجاء بمثل مادي في الإنجيل لأن الإنجيل ليس فيه إلا روحانيات، فلما طغتْ المادية على اليهود ذكر لهم المثل المعنوي، ولما طغتْ الروحانيات على النصارى جاء لهم بمثَل مادي، فكان ولا بُدَّ أن يجيء الإسلام وسطاً يراوح بين الماديات والروحانيات. وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا.. } [الزمر: 27] الضرب قلنا: هو إيقاع شيء فوق شيء بقوة وشدة ليحدث فيه أثراً، ومن ذلك الضرب في الأرض أي: حرثها والاعتناء بها لتعطيك من خيرها، وضَرْب المثل يكون لأنه في ظاهره غريب، فنقول لك: لا تستغربه فهو مثل كذا وكذا فيتضح المقال ويزول الاستغراب، والمثَل يشبه المختلف فيه بالمتفق عليه. كما في المثل السابقمُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ.. }

السابقالتالي
2