الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }

الاستفهام في أفمن مثل سابقه في قوله تعالى:أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ.. } [الزمر: 22] لذلك لا بدّ أن نقدر هنا المقابل، فالمعنى: { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر: 24] أي: كمن لا يعذب، ويمكن أنْ نرقي المسألة فنقول: كمن يُنعّم؟ ولك أنت أن تحكم. ومعنى { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الزمر: 24] أي: العذاب الشديد السيئ، وتأمل { يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الزمر: 24] معلوم أن الوجه أشرف أعضاء الإنسان، وبه تتميز سمات الخلق لذلك يقول سبحانه:سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [الفتح: 29]. ولولا سمات الوجوه لتساوت الأبدان وتشابهت بعضها ببعض، لذلك يهتم الإنسان بوجهه ويدافع عنه ويحميه أولاً، ومثّلنا لذلك برجل يسير في الطريق، فمرّت بجواره سيارة مثلاً نثرت عليه وعلى ملابسه الطين، بالله ما أول شيء يحرص على نظافته وإزالة الأذى عنه؟ إنه يمسح أول ما يمسح وجهه، ثم يلتفت إلى ملابسه، لأن الوجه هو أشرف الأعضاء وأشهرها وأكرمها، وهو المُحَافَظ عليه قبل كل الجوارح. إذن: ما بالك بعذاب لا يجد الإنسان ما يتقيه به إلا وجهه؟ نعم يتقي العذاب بوجهه، لأن يديه مغلولة، وقدمه مُكبلة، فلا مهربَ له ولا خلاصَ، فلا يملك إلا أنْ يتقي العذاب ويدفعه عن نفسه بأعزّ ما يملك، وبأشرف أعضائه وهو الوجه. { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [الزمر: 24] قوله في العذاب ذُوقُوا تهكم بهم، واختار الذوق وهو جارحة من الجوارح التي تؤدي مهمة في جسم الإنسان مثل العين والأذن، إنما اختار الذوق خاصة، لأن الذوقَ هو الحاسة الملازمة للإنسان، وبه قوام الحياة، حيث بالتذوق ندخل الطعام والشراب، ونتمتع به ونجد له لذة تفوق الملاذّ الأخرى. أما العين والأذن مثلاً، فقد ترَى أو تسمع ما لا يعجبك، أما في التذوق فإنك تختار ما يعجبك وتجد له لذة، وهنا يريد الحق سبحانه أن يعمم الذوق في الجسم كله، فجميع البدن يذوق العذاب. وقلنا: إن اللسان هو جارحة التذوق بمراحله وما حوله يذوق ويُميِّز الطعوم، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقة فلا يشعر الإنسان له بأيِّ مذاق، ولذلك رأينا صناع الدواء يُغلفون الدواء المرّ بمادة مُستساغة مقبولة، تساعد على مرور الدواء من منطقة التذوق دون أنْ نشعر بمرارته. وإذا نظرتَ إلى الجوارح كلها تجد أنها مُتعلقة بالغير، فأنا أسمع غيري وأرى غيري، وألمس غيري أو بعضي، أما الذوق فخاص بالإنسان نفسه، فلا يذوق إنسانٌ لآخر لذلك اختار الله سبحانه هذه الجارحة في إظهار شدة العذاب وألمه { ذُوقُواْ } [الزمر: 24] وفي موضع آخر ذُقْ. لا رؤية ولا سماع ولا شم ولا لمس، إنما بالذوق الذي هو خاص بصاحبه، وكأن لكل واحد منهم مذاقاً يناسب عذابه.

السابقالتالي
2 3