الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

يقول الله تعالى: ما دُمتم ستتبعون الأحسن وتختارونه فأنا مُنزِلٌ عليكم أحسن الحديث، نعم هو أحسن الحديث لأنه كلامُ الله وكلام الله صفته، وهو كامل الكمال المطلق، وقد جعله الله مُعْجزاً، وتولى سبحانه حفظه بنفسه ولم يكل حفظه للخلق. وفي عُرْف البشر أن الإنسان لا يحفظ إلا ما كان حجة له ولا يحفظ الحجة عليه، أما الحق سبحانه فيحفظ القرآن وهو حجة عليه سبحانه لخَلْقه، فكل ما أتى في القرآن ضمن الحق سبحانه حدوثه، كما أخبرنا الله به لأنه هو منزله وهو حافظه. والمراد بأحسن الحديث القرآن الكريم، ومعنى { مُّتَشَابِهاً } [الزمر: 23] أي: يشبه بعضُه بعضاً في الحُسْن أو في البلاغة أو في الموضوع، فإياك أن تقول: هذه الآية أبلغ من هذه، لأن كل آية بليغة في موضوعها. فلو أخذنا مثلاً التشابه في الموضوع نقرأ في قصة سيدنا موسى عليه السلام:فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.. } [القصص: 8]. وفي موضع آخر قال:أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39]. فظن البعض هنا تكراراً، لكن المتأمل في معنى الآيتين يجد أن كل أية تؤدي لقطة لا تؤديها الأخرى، فمعنىلِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8] العداوة هنا من موسى لآل فرعون إنما في.يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ.. } [طه: 39] العداوة من جانب فرعون لموسى، والمعركة لا يحمى وطيسها إذا كانت العداوة من جانب واحد، لأن الجانب الآخر ربما يتساهل أو يتنازل لعدوه، فإنْ كانت العداوة من الطرفين حميتْ المعركة. وسبق أنْ قلنا: إن المستشرقين وقفوا أمام قوله تعالى:وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [لقمان: 17] وقوله:إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. وقالوا: أيهما أبلغ من الأخرى؟ وإنْ كانت إحداهما بليغة فالأخرى إذن غير بليغة. ومثل هذه الاستدراكات نتيجة عدم فَهْم أسلوب القرآن، وعدم وجود الملَكة اللغوية عندهم. ونقول لهم: كل آية بليغة في سياقها مناسبة للمعنى الذي قِيلَتْ فيه، فالآية الأولى وردتْ في الكلام عن المصيبة التي لا غريمَ لكَ فيها، والصبر في هذه الحالة يسيرٌ لذلك لم يُؤكّد. فمن الطبيعي أنْ تصبر على المرض مثلاً، لأنه لا غريم لك فيه، أما إنْ كانت المصيبة لك فيها غريم، فالغريم يثير غضبك ويؤجج نار الغِلَّ، ويدعو إلى الانتقام، فناسب ذلك التأكيد باللام في الآية الأخرى:لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43]. وكذلك وقفوا أمام قوله تعالى:نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.. } [الأنعام: 151] وقوله سبحانه:نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم.. } [الإسراء: 31] وقالوا: ما الفرق بين الآيتين؟ ونقول: لو نظرت إلى صدر الآية لوجدتَ أن كل عجُز يليق بصدره، لأن القتل للأولاد كان له سببان: الأول: الفقر، فالعائل فقير لا يقدر على رزق نفسه، فما بالك برزق أولاده؟ لذلك قال سبحانه:

السابقالتالي
2 3