الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَذَا ٱلْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ ٱلأَخْيَارِ }

سيدنا إسماعيل معروف لنا جميعاً من خلال قصته مع أبيه إبراهيم، والخلاف هنا بين العلماء في سيدنا ذي الكفل، لأن من الرسل مَنْ عدَّهم الله في موكب الرسالات، لكن لم يذكر لنا إلا أسماءهم وأوصافهم، وذو الكفل ذُكِر هنا بهذا الوصف.وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص: 47] فاليسع لا نعرف عنه إلا اسمه، ولم يذكر القرآن مَنْ هو، ولا متى بُعِث، ولا إلى مَنْ أرسِل، ولا المنهج الذي جاء به، كذلك في ذي الكفل لم يذكر عنه القرآن إلا اسمه، ووصفه هنا بأنه من المصطفين الأخيار، وفي سورة الأنبياء قال عنه الحق سبحانه:وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الأنبياء: 85-86]. فوُصِف مرةً بأنه من الأخيار، ومرة بأنه من الصابرين، ومرة من الصالحين، ولهذا أدخله الله في رحمته، وهذه التي جعلت العلماء يختلفون في ذي الكفل، أهو رسول أم غير رسول؟ لكن جمهور العلماء على أنه رسول، بدليل أن الله تعالى سلكه ضمن هؤلاء الرسل. ومما قيل في ذي الكفل أنه في فترة اليسع وفي رسالته أراد أن يستخلفَ على الناس رجلاً بعده، وأراد أنْ يرى سيرته في الرعية، وكيف سيتصرف هذا في أخريات حياته؟ وحين رأى أن قوته عجزتْ عن القيام بأمر الدعوة. وكان من حرصه على الدعوة من بعده أنْ يختبر مَنْ يستخلفه وينظر ما يفعل. فلما جلس اليسع في قومه قال: مَنْ يتقبل مني بثلاث؟ والباء عادة كما في هذه العبارة تدخل على الثمن، كما تقول: اشتريتُ كذا بكذا، والمعنى: مَنْ يتكفل لي بثلاثة أشياء وأستخلفه على القوم، ثم قال في بيان هذه الثلاث: أنْ يصومَ النهار، ويقومَ الليل، ولا يغضبَ. فقام رجل من القوم تزدريه العين وقال: أنا، فأعاد عليه: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم، فردَّه. وفي الغد، جلس اليسع في مجلسه، وعرض على القوم مقالته، فقام الرجل بعينه وقال: أنا، فعرف اليسع أن الرجل عنده عزيمة وإصرار على القيام بهذه المهمة، فاستخلفه على القوم. وقد تكلم العلماء في هذه الشروط الثلاثة التي جعلها سيدنا اليسع - عليه السلام - حيثيات الاستخلاف، قالوا: لأن الذي يصوم النهار يصوم عما أحله الله في غير الصوم، والذي يصوم عَمَّا أحله الله يصوم من باب أَوْلَى عما حرَّمه الله، فضمن بذلك بُعْده عن المحرمات، والذي يقوم الليل ترك راحته وترك التنعُّم ليأنس بربه، ومَنْ كانت فيه هذه الصفة لا يتخذ الاستخلاف للنعمة والرفاهية إنما يتخذه للقيام بأعبائه، وإلا لو أراد التنعُّم لَنام الليل مِلْء جفونه. أما عدم الغضب فهي صفة لا بُدَّ أنْ تتوافر في كل مَنْ يسوس الرعية، أو يجلس في مجلس حكم بين الناس، ومعلوم أن للرعية أخلاقاً شتى وصفات متباينة، فلا بُدَّ لمن يتولَّى أمرهم أنْ يكون حليماً لا يغضب لأن الغضب يستر العقل، فلا يختار بين البدائل، ولا يُحسن التصرف في الحكومة.

السابقالتالي
2