الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } * { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } * { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } * { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

قال سبحانه: { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ.. } [ص: 36] وكان تسخير الريح لسليمان أول نعمة أضيفتْ إلى ملكه لم تكُنْ موجودة من قبل، ومعنى { رُخَآءً.. } [ص: 36] أي: لينة ناعمة كالمطية التي تمشي براكبها مَشْياً هادئاً لا تزعجه ولا توقعه. إلا أن بعض المفسرين قالوا إن كلمة رخاء تتعارض مع قوله تعالى في نفس القصة:ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً.. } [الأنبياء: 81] ونقول: هي بالفعل عاصفة، لكن في موقف آخر لأن الريح في القصة لها عدة استعمالات، فالريح إنْ كانت تحمله للنزهة فهي رُخاء لينة، وإنْ كانت لحمل الأشياء فهي عاصفة، إذن: فالجهة في الوصف مُنفكَّة. وقلنا: إن الريح إنْ جاءت هكذا مفردة فهي للعذاب، كما في قوله تعالى:وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 41-42] فإنْ كانت جَمْعاً فهي للخير كما في:وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ.. } [الحجر: 22]. ومعلوم أن الهواء هو الذي يحفظ توازن الأشياء، بدليل أننا لو فرَّغْنَا الهواء من جهة من جهات عمارة مثلاً، فإنها تنهار في نفس الجهة، لأن الهواء هو الذي يسندها ويحفظ توازنها. فإذا أراد الله تعالى أن يدمر بالريح أتى به من جهة واحدة. فكأن الحق سبحانه يقول: الريح المفروض أنه لا يأتي إلا في العذاب والنقمة، لكن سخرته لسليمان بحيث لا يأتي معه إلا بالخير { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص: 36]. وقوله: { حَيْثُ أَصَابَ } [ص: 36] حيث قصد وأنّى ذهب. وهذا يعني أن سليمان خاطب الريح التي لا لغةَ لها لكن فهمه الله، فكأنه أصبح آمراً والريح مأمورة، إذن: فهمتْ عنه الريح، فالحق سبحانه جعل لكل جنس من الأجناس لغته التي يتخاطب بها في بني جنسه، فإذا فَهَّم الله إنساناً هذه اللغة فهمها وتخاطب بها مع هذه الأجناس. ومن ذلك قوله تعالى:عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ.. } [النمل: 16]. لذلك حدثونا عن التماسيح في أعالي النيل، وعن الانسجام والتكامل بينها وبين الطيور التي تتغذَّى على الفضلات التي بين أسنان التمساح، فالتمساح بعد تناول طعامه يخرج إلى اليابسة ثم يفتح فمه، فيأتي الطير وينقر ما بين أسنان التمساح فينظفها له، فإذا أحسَّ الطير بقدوم الصياد صوّت صوتاً خاصاً يعرفه التمساح، فيسرع إلى الماء وينجو من الصياد، وهكذا يكون التمساح مُقوِّمَ حياة للطير، والطير مُبقى حياة بالنسبة للتمساح، فتأمل الجزاء الأوْفى، كيف يوجد في عالم الطير والحيوان؟ ولا يصل إلى مرتبة الفهم عن الطير والحيوان إلا مَنْ أعطاه الله هذه الخصوصية، وقد أعطى الله هذه الخصوصية لسيدنا سليمان، ففهم لغة الطير ولغة النمل:قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ }

السابقالتالي
2 3 4