الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }

هذه الآية تعطينا لقطةً من لقطات قصة سيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولسيدنا سليمان في قَصَصه لقطات متعددة، كل لقطة تمثل عبرةً من العبر، وعظةً من العظات، وموقفاً من مواقف سيدنا سليمان في أمر دعوته. وأول لقطة في القصة مع أبيه داود - عليه السلام - حينما حكم في الحرث أي: الزرع، وكان الزرع لرجل فجاءت غنم رجل آخر فأكلت الزرع، وقد حكى لنا الحق سبحانه قصة الحكم الذي حكمه داود، والأمر الذي انتهى إليه الحكم من استدراك على حكم داود من كلام ولده سليمان. وصوَّبَ الله الحكمين، وقال سبحانه:وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً.. } [الأنبياء: 78-79]. معنى:نَفَشَتْ فِيهِ.. } [الأنبياء: 78] يعني: انتشرت فيه الغنم وأكلته، فلمَّا عُرِض الأمر على داود قضى بأنْ يأخذَ صاحبُ الزرع الغنَم. فلما علم سليمان بهذا الحكم ردَّه. وقال: بل نعطي الأرض لصاحب الغنم ليزرعها حتى تعود كما كانت، ونعطي الغنم لصاحب الأرض يستفيد منها، ثم يعود كل حقٍّ إلى صاحبه، فكأن الله تعالى ألهم سليمان صحة الحكم ليستدرك على أبيه داود، فانظر كيف كانت قداسة كلمة السماء مع كلمة أهل الأرض، وبعد ذلك صوَّب الله تعالى الحكمين، وقالوَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً.. } [الأنبياء: 79]. إذن: فاستدراك هيئة تحكم على هيئة حكمت ليس عيباً في الأولى، وإنما هذا فهم فَهْماً حكم بمقتضاه، وذلك فَهم فَهْماً آخر حكم بمقتضاه، لذلك نجد في المحاكم الحكم الابتدائي والاستئنافي، وبعد ذلك حكم النقض، فهل حكم الاستئناف يطعن في الحكم الابتدائي، أو حكم النقض يطعن في حكم الاستئناف؟ لا، لأن الحكم الأعلى يراعي شيئاً فاتَ صاحب الحكم الأدنى، فلا غضاضةَ في هذا. ونحن حين نستعرض القصة نجد المفسرين لم يُظهروا لنا حجة داود في الحكم الذي قضى به، ولا حجة سليمان في الحكم الذي قضى به، وبالاستقراء. قلنا: الزرع قديماً لم يكُنْ في أرض محكرة مملوكة للناس، إنما كانت الأرض على المشاع، ففي أي مكان تبذر الحب وتسقيه السماء حتى يثمر فتأخذه ثمره دون أنْ تمتلك أرضه، يعني: من سبق إلى أيِّ حقل زرعه. إذن: الملكية كانت للزرع فحسب لا للأرض، فعلى هذا قام حكم سيدنا داود، وما دامت الأرض ليست مملوكة لصاحب الزرع فالمسألة زرع وغنم. أما سيدنا سليمان فرأى أن الزرع يمثل كما نقول وَضْع يد على الأرض، ووَضع اليد يبيح الملكية، فأبقى لصاحب الملك ملكه في الأرض، فحكم بأنْ يأخذ صاحبُ الأرض الغنم ينتفع بها وأن يأخذ صاحب الغنم الأرض يزرعها إلى أنْ تعود كما كانت، ثم يأخذ كل منهما ماله.

السابقالتالي
2 3 4