الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ }

الفتنة معناها الاختبار، والفتنة في ذاتها ليست مكروهة، إنما المكروه أنْ تُخفق فيها وتفشل في خوضها، فماذا عليك لو فتناك. يعني: اختبرناك ونجحتَ في الاختبار؟ وأصل الفتنة من فتنة الذهب لتنقيته، فالذهب منه المخلوط بمواد أخرى، ونريده ذهباً إبريزاً صافياً فماذا نفعل؟ نصهر الذهب في النار ليخرج منه الخبث إلى أن يصير خالصاً نقياً، كذلك تفعل الفتنة بالناس تمحِّصهم لتبين الجيد من الرديء. وقد فتن الله سليمان كما فتن من قَبْل أباه داود - عليهما السلام - في مسألة المحراب. ومعنى: { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً.. } [ص: 34] الكرسي هو العرش الذي يجلس عليه الملك، والجسد هو قالب الكائن الحي. ويقال لهذا القالب جسد إذا كان خالياً من الروح، وللمفسرين في هذه الآية عدة أقوال: قالوا: إن سيدنا داود كان له ولد آخر غير سليمان، إلا أنه كان ولداً فاسداً مثل ولد نوح، فاحتال هذا الولدُ وقام بانقلاب على سليمان، حتى أخذ المُلْكَ منه، وظل مَلِكاً مدة طويلة، فلما أراد الحق سبحانه أنْ يعيد سليمان إلى مُلْكه ألقى هذا الولد الفَاسِد على كرسي عرشه جسداً هامداً لا حركة فيه، يعني: بعد أنْ كان مَلِكاً مُطاعاً مُسيطراً صار لا يسيطر حتى على نفسه وجوارحه. بعد ذلك خرجتْ عليه رعيته فقتلوه، وجاء بعده سليمان. وقالوا: إن سيدنا سليمان كان لديه جَوَارٍ كثيرات. فقال: سأطوف الليلة على سبعين جارية، وآت من كل واحدة بولد فارس يركب فرسه في سبيل الله، يعني: المسألة كلها كانت في الخير وفي الله، إلا أنه لم يقدم المشيئة ولم يقُلْ: إنْ شاء الله، فلم تَلِدْ منهن إلا جارية واحدة، ولدتْ له جسداً لا حركةَ فيه ولا تصرُّفَ لأن المؤمن مُطالب بأنْ يقدم مشيئة الله إذا عزم على شيء في المستقبل، كما قال سبحانه:وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ.. } [الكهف: 23-24]. لأنك حين تقول: سأفعل غداً كذا وكذا، فقد حكمتَ على فعل لا تملك عنصراً واحداً من عناصره، فأنت لا تضمن بقاء نفسك إلى أنْ تفعل، ولا تضمن تغيُّر الأحوال وتغيُّر الأسباب، فحين تعلِّق فعلَك على مشيئة الله إنما تحفظ كرامتك وتبرئ نفسك من الكذب، فقد شئتَ ولكن الله لم يَشَأْ. ويبدو أن المُلْكَ أغرى سليمان، فداخله شيء من الزَّهْو لأنه متحكم في عوالم الإنس والجن والطير والحيوان ومُطَاع من الكون كله من حوله، لذلك لم يقُلْ إنْ شاء الله، فجازاه الله بذلك. وقال آخرون: إن سليمان - عليه السلام - أنجب ولداً، وأن الجن أرادتْ به سوءاً لأنها خافت أنْ يفعل بها كما يفعل سليمان، فأرادوا قتله، فما كان من سليمان إلا أنْ رفعه فوق السحاب يرضع من المزْن، فكأنه - عليه السلام - أراد أنْ يفر من قدر الله.

السابقالتالي
2 3