الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } * { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } * { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } * { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ }

من عجائب السياق القرآني في ذكر داود وسليمان أنهما يشتركان في مسألة واحدة، فلو نظرتَ إلى أول آية ذكرت سيدنا داود تجدها في سورة البقرة في قوله تعالى:فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ.. } [البقرة: 251]. وآخر ذكر له هنا في سورة ص: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ.. } [ص: 30]. كذلك أول ذِكْر لسيدنا سليمان ورد في سورة البقرة في قوله تعالى:وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ.. } [البقرة: 102]. وآخر ذكر له في سورة ص في قوله تعالى:وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ص: 34]. قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ.. } [ص: 30] الوهْب: عطاءٌ بلا مقابل، فإنْ قُلْتَ: فالإنجاب كله يُعَدُّ بلا مقابل، نعم لكن الخالق سبحانه يهبك ذاتاً، ثم يزيد عليها هبة أخرى هي الصفات التي تتوفر للذات، مثل: الملك والحكمة وغيرها لذلك الذين يطلبون الأشياء على غير مَظانِّها من الأسباب يطلبونها بالهبة، كما في قوله تعالى:وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ.. } [ص: 35]. وقوله تعالى:فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [مريم: 5-6]. فسيدنا زكريا حين طلب من الله الولد كان شيخاً كبيراً، وكانت امرأته عاقراً، فالأسباب كلها ليست مُواتية وليست صالحة للإنجاب، لذلك طلبها على سبيل الهبة من الله، لا بالقانون والأسباب. وإنْ كانت الأسبابُ في ذاتها هبةً إلا أنها هبة عامة، لكن ما يلحق الذات من الصفات الخاصة تُعَدُّ هبة خاصة. وقوله تعالى: { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ.. } [ص: 30] نعرف أن نِعْم تُقَالُ للمدح، والمدح هنا بالصفة العقدية، وهي العبودية لله تعالى. وسبق أنْ قلنا: إن كلمة عبد وعبودية كلمة ممقوتة عند الناس ولهم الحق في مَقْتها، لأن العبودية للبشر يأخذ فيها السيدُ خَيْر عبده، لكن العبودية لله تعالى يأخذ العبد من خير سيده، فهذه هي العبودية الحقة التي تُعَدُّ عِزَّاً للعبد ورفعة. لذلك لما تجلى الحق سبحانه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بنعمة الإسراء والمعراج، قال:سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ.. } [الإسراء: 1] فكأن عبوديته لربه هي التي أوصلْته إلى هذه المنزلة. لذلك - ولله المثل الأعلى - الرجل صاحب الصنعة أسطى أو معلم وتحت يده صبيان، يُقرِّب منهم المخلص الذي يُحسن صنعته، ويجيد الخضوع له والطاعة والخدمة، لذلك يختصه بمواهبه، ولا يضِنُّ عليه بخفايا الصَّنْعة ودقائقها، ويعطيه خصوصيات لا يعطيها لغيره. ومع أنه - عليه السلام - كان مَلِكاً إلا أن ربه مدحه بصفة العبودية { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ.. } [ص: 30] ثم بيَّن لنا مَناط المدح بالعبودية، فقال { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 30] يعني: رجَّاع إلى الله إنْ هفت نفسه هفوة أنَّبَ نفسه عليها، ورجع إلى ربه، ويتوب إليه، لذلك يقول تعالى في بيان التوبة:

السابقالتالي
2 3