الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } * { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ }

حين يستفهم منك بقوله { وَهَلْ أَتَاكَ } [ص: 21] فاعلم أنه دليلٌ على أن هذا الشيء كان يجب أنْ تعلمه، تقول: هل أتاك كذا وكذا يعني: أتاك ومثله قوله تعالى:هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان: 1]. المعنى: أتى على الإنسان وقت من الدهر لم يكُنْ شيئاً مذكوراً إنما أتى الأسلوبُ بصيغة الاستفهام لتأتي أنت بالمراد، فيكون إقراراً منك، والإقرار لا يُكذِّب على خلاف الإخبار بالمراد فالإخبار يحتمل عقلاً الصدقَ ويحتمل الكذبَ. أو: أن هذا الأسلوب للتشويق للنبأ. والنبأ ليس هو مطلق الخبر إنما هو الخبر العظيم الذي ينبغي أنْ يُعلم لذلك يُهتم به، فليس من قبيل النبأ أنْ تقول مثلاً: أكلتُ اليوم كذا وكذا، لذلك حين يخبرنا الحق سبحانه عن أمر القيامة يقول:عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ * ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } [النبأ: 1-3]. وكلمة { ٱلْخَصْمِ } [ص: 21] تطلق على المفرد والمثنى والجمع بنوعيه تقول: هذا خصم وهذه خصم، وهؤلاء خَصْم.. إلخ وقد تُثنَّى مع المثنى كما في:هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } [الحج: 19] لذلك جاءت بعدها { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [ص: 21] بصيغة الجمع. ومعنى تسوروا: تسلقوا: لأنهم لم يدخلوا من الباب، إنما دخلوا من أعلى السور، وهذا دليل على أن هؤلاء الخَصْم لم يأتوا من جهة الأرض، إنما من جهة السماء، فكانوا جماعة من الملائكة في صورة بشر، والمحراب: هو المكان المقدَّس الذي يجعله الإنسان لخُلْوته ومناجاته لربه، ومن ذلك قوله تعالى في السيدة مريم:كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً.. } [آل عمران: 37] ونحن نُسميه الآن القبلة. ثم يقول سبحانه: { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } [ص: 22] الإشكال هنا كيف يفزع سيدنا داود لرؤية هؤلاء وهو في حضرة الله وفي حضانته، وبين يديه يصلي ويتعبَّد ويُسبِّح؟ وكيف أن الحق سبحانه يُفزع عبده ونبيه، وهو بين يديه؟!! قالوا: الفزع على قسمين: فزع يُحرِّك قلبك بالجزع ولكن قالبك سليم لم يتأثر. وفزع آخر ينضح من القلب على القالب فيتأثر حتى تظهر عليه علامات الفزع. وقد كان فزع سيدنا داود من النوع الثاني، لماذا؟ قالوا: لأن الملائكة حين رأوْه على هذه الحال قالوا له { لاَ تَخَفْ } [ص: 22] ولا يقولون له ذلك إلا إذا انفعلَ قالبُه انفعالاً يدلُّ على الخوف، فهذا دليل على أن الفزع تجاوز قلبه إلى قالبه. ونفهم أيضاً من قولهم له { لاَ تَخَفْ } [ص: 22] أنهم ليسوا من رعيته، وليسوا من البشر لأن واحداً من الرعية لا يجرؤ أنْ يقول للملك: لا تخف. وقولهم: { خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } [ص: 22] يدلُّ على اتفاقهم رغم خصومتهم، فقد تكلَّموا جميعاً في نَفَس واحد، أو تكلَّموا بالترتيب، أو تكلم واحد منهم وأمَّن الباقون، والمُؤمِّن أحد الداعين، فكونهم تكلموا بهذه الصورة المنظمة وأيديهم في أيدي بعض، فهذا يدلنا على أنه خلافَ بينهم، ولا يطمع أحد منهم في الآخر، إذن: ما المسألة؟ وما حقيقة مجيء هؤلاء على هذه الصورة؟ لا بُدَّ أن لهم هدفاً آخر.

السابقالتالي
2