الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ } * { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } * { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ } * { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ }

الآيات هنا تراوح بين ذِكْر الجنة وما فيها من النعيم، وذِكْر النار وما فيها من العذاب، فتعود مرة أخرى إلى جهنم وعذابها ووَصْف ما فيها { أَذَلِكَ } [الصافات: 62] أي: ما سبق ذكْره من نعيم الجنة { خَيْرٌ } [الصافات: 62] أفضل، فهي بمعنى أفعل التفضيل. { نُّزُلاً } [الصافات: 62] أي: مَنْزِلاً وضيافةً. فالنُّزُل مَا يُعَدُّ للضيف الطارئ من مسكن، فيه مُقوِّمات الحياة من مأكل ومشرب وخلافه، لذلك يسمون الفندق نُزُل، والفنادق مع ما فيها الآن من سبل الراحة هي ما أعدَّه البشر للبشر، فما أدراك بما أعدَّه ربُّ البشر؟ لا بُدَّ أنْ تكون الضيافةُ على قدر إمكانات المضيف. { أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ } [الصافات: 62] وطبيعي أن نسألَ: ما هي يا ربّ شجرةُ الزَّقُّوم؟ فيصِفُها الله لَنَا { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } [الصافات: 63] فتنة بمعنى: محنة وعذاب { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 64] أي: في وسطها. وهذا مظهر من مظاهر طلاقة القدرة، فلا تسأل عن كيفية نُمو شجرة في وسط النار لأن الفاعل هو الله عز وجل. إذن: خُذْها في إطار تنزيه الحق عن قوانين الخَلْق. ومعنى { طَلْعُهَا } [الصافات: 65] أي: ثمرها { كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [الصافات: 65] لكن نحن لم نَرَ رءوس الشياطين، لذلك وقف بعض المستشرقين الذين يحاولون الاستدراك على كلام الله، وقف يقول: كيف يُشبِّه اللهُ في هذه الآية مجهولاً بمجهول، فنحن لم نَرَ شجرةَ الزقوم، ولم نر رءوس الشياطين، والتشبيه يأتي لتوضيح المشبّه بذكر المشبَّه به، فما فائدة أنْ تُشبه مجهولاً بمجهول؟ نقول: مُخ الإنسان فيه جزء للحافظة، وجزء للذاكرة، وجزء للتخيُّل يُسمَّى مُخَيلة، فالإنسان يرى الأشياء، فتسجلها الحافظة في حاشية الشعور، ثم الذاكرة تستدعي له هذه الأشياء، أما المخيلة فتأخذ من واقع الأشياء وتكوِّن صوراً جديدة مُتخيَّلة، لا أصلَ لها في الواقع. هنا أنت مع هذا التشبيه { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [الصافات: 65] مع أنك لم تَرَ رءوس الشياطين، إلا أن خيالك سيرسم لها صورة على أبشع ما يكون، وعندها سيتضح لك الفارق بين النُّزُل الذي أعَدَّهُ الله للمؤمنين في الجنة وهذه الشجرة التي ثمارها كرءوس الشياطين، فالجمع بين هاتين الصورتين مقصود، فكأن ربّكَ عزَّ وجلَّ أراد أنْ يسوقَ لك العِظَة في وقت الجزاء المشهود، لا في وقت التكذيب. وشجرة الزقوم شجرة خبيثة، مُنتنة الرائحة، مُرَّة الطَّعْم، موجودة في منطقة تهامة، جعلها الله مثلاً للشجرة التي تنبت في أصل الجحيم، قالوا: هذا بمثابة تقريع للمعذَّبين بهذه الشجرة، لأنهم كانوا يُكذِّبون بالبعث وبالحياة بعد الموت، فجعل الله لهم هذه الشجرة تنبت في وسط جهنم وفيها طعامهم، فلا طعم لهم غير ثمرها. والشجرة تعني الخضرة والمائية، ومعلوم أن المائية تنافي النار، وفي هذا إشارة إلى طلاقة القدرة التي كذَّبوا بها في الدنيا.

السابقالتالي
2