الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } * { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } * { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } * { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } * { لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ }

أولاً: أثبت الحق سبحانه لسيدنا يونس - عليه السلام - أنه مُرْسَل { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 139] فلنأخذ هذه الفكرة في الاعتبار قبل الدخول في قصته، ولنفهم القصة في هذا الإطار، حتى إذا ما حدث منه شيء لا يليق برسول في نظرك، فاعلم أنه لا يطعن في منزلته كرسول، فالذي أرسله شهد له بالرسالة ولم يعزله منها، ولم يُجرِّده من منزلته بعد ما حدث. إذن: حين تسمع قصته لا تَقُلْ أن هذا الفعل لا يليقُ برسول لأنك لست أغيرَ على الله من الله. وتأمل قول الله فيه { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [الصافات: 140] معنى أبق: هرب وليس الهروب المطلق، إنما هروب العبد من سيده، لا هروبه من مستأجره، ولا هروب ابني مني، فهذا لا يُعَدُّ أبُوقاً. فكلمة أبق فيها ملحظ العبودية المطلقة للسيد الأعلى، فالله سيده وهو عبده. لأن العبد مملوك بملك اليمين فهو بذاته مِلْك لي حين آخذه أسيراً، نعم بذاته، لأن الله حقن بهذا الملْك دمه، فبدل أنْ أقتله في الحرب أسرْتُه واستعبدته، فهو لا يصير عبداً إلا إذا أسرْته، وما دُمْت أسرْته وقدرْت عليه تستطيع قتله، إذن: ملّكك اللهُ رقبته، لأنه حمى دمه أنْ يُرَاق. فلا داعي إذن للمقارنة بين الرقِّ والحرية، وإنْ أردتَ المقارنة، فقارن بين رِقٍّ وقتل، ولو خيَّرْتَ العبد نفسه بين أن يعيش عند سيد يخدمه، وبين القتل لاختار العبودية. إذن: العبودية هنا ليست سُبَّة في الإسلام، إنما هي جميل أَسْداه الإسلام إلى هؤلاء العبيد. ومحمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ليشرِّع للرقِّ، ويزيد من أعداد الرقيق إنما جاء ليقضي على الرِّق، وليجفِّف منابعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء والرق موجود في المجتمع وبكثرة، حيث كان له ثلاثة وعشرون مصدراً يأتي الرقُّ منها، فماذا فعل الإسلام؟ سَدَّ كل هذه المصادر، ولم يَبْقَ منها إلا الأسير في حرب شرعية، ثم أخذ يُعدِّد مصارف الرق ويفتح الأبواب لتحرير الرقيق كما رأينا في الكفَّارات وفي التطوع بتحرير الرقاب. فإنْ لم ترتكب ذنباً يستدعي كفارةً وعَتْقَ رقبة ولا حاجةَ لك في التطوع بعتق رقبة واحتفظتَ بما لديك من الرقيق فلتكرمه. وقد وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم دستوراً نسير عليه في معاملة الرقيق، حين قال: " هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلَّفه ما يغلبه فليُعنه عليه ". هكذا أمر الإسلام في مسألة العبيد، والإسلام أبقى على الرقِّ من الحرب المشروعة لأن لي عدواً كافراً يحاصرني ويحاربني، ويأخذ أولادي أَسْرى عنده، فلا بُدَّّ من المعاملة بالمثل، أسَرُوا مِنّا نأسِر منهم، فَدوْا أسْراهم نفدي أَسْرانا، أطلقوا السراح نطلق.

السابقالتالي
2 3 4