الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } * { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } * { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } * { سَلاَمٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ } * { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { فَكَذَّبُوهُ } [الصافات: 127] كشأن كل الأقوام التي جاءها الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، ولا بُدَّ أنْ يُكذبَ الرسل، يُكذّبهم أهلُ الفساد والمنتفعون من الفساد، يُكذِّبهم سَادَةُ القوم وكبراؤهم، لتظلَّ لهم سيادتهم وجبروتهم واستعبادهم للضعفاء { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [الصافات: 127] أي: عندنا للحساب تحضرهم ملائكة العذاب، والمعنى: لا تظنوا أنكم تُفلتون من أيدينا، لأن لكم مَعاداً ورجعة كما قال سبحانه:أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115]. وقوله: { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الصافات: 128] أي: الذين اصطفاهم لطاعته وأخلصهم لعبادته، ثم تُختم هذه القصة الموجزة لهذا النبي الكريم بما خُتِمتْ به سابقتها { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الصافات: 129-132]. ونفهم من هذه الخاتمة أن الإحسانَ فَرْعُ الإيمان، يعني ما كان مُحسِناً إلا لأنه كان مؤمناً أولاً. هكذا لخَّص لنا القرآن قصة هذا النبي، وبيَّن أنه جاء بقضية عقدية لا قضية تكليفية، جاء ليُصحِّح للقوم الأساسَ والقاعدةَ التي تُبنى عليها الحياة، وهذه مهمة الرسل من لدُن آدم عليه السلام، فقد خلق اللهُ آدمَ أبا البشر خليفةً في الأرض. ومعنى خليفة في الأرض أنْ يزاولَ في الأرض مهمة عن الحق سبحانه وتعالى. ولكي يزاول هذه المهمة أمَدَّه الله بصفات من صفاته، وهذه الصفات موهوبة ممدودة ليست ذاتية في الخليفة، لذلك يسلبها الخالق في أيّ وقت، فالله تعالى هو واجب الوجود الأعلى، وهو المتصف بهذه الصفات بذاته، فالله قادر ويعطيك من قدرته قدرةً، وحكيم ويهبك من حكمته حكمةً تزاول بها الأشياء، والله قهَّار ويعطيك قهارية تزجر بها مَنْ كان تحت تصرُّفك لتستقيم أمورهم، ويعطيك رحمانية تحنُو بها على الضعيف والمحتاج. إذن: فمن صفات الحقِّ واجب الوجود الأعلى أنه يعطينا من وجوده وجوداً، بل وجوداتٍ متعددة بتعدُّد الأفراد ومتوالية الأمثال، لكن يعطي سبحانه من الوجود الذاتي وجوداً عَرَضياً. فإنْ نظرتَ إلى الآفات التي تصيب الناسَ في حواسِّهم أو في جوارحهم تجدها مرادةً لله تعالى خلقاً أو توجّهاً، لماذا؟ لأن الإنسان كما أخبر عنه خالقه:كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7]. وضربنا لذلك مثلاً بالولد مع أبيه، فلو أن الأب يعطي ولده المصروف كلَّ شهر تجد الولد لا يحرص على لقاء أبيه إلا كل شهر، إنما لو أعطاه يوماً بيوم لتعرَّض له الولد كل يوم وتمحَّك فيه، وأظهر نفسه ليأخذ مصروفه الذي تعوَّد عليه، فتراه مثلاً يمرُّ على أبيه في الصباح. ويقول: يا أبي أنا رايح المدرسة، فالحاجة هي التي ألجأتْه لمودَّة أبيه. إذن: يجب أنْ نُفسِّر فلسفة الحاجات التي تُعوز النتيجة، وهذه الحاجات هي التي تُلجئك إلى ربك، والواقع يؤيد ذلك، وكثيراً ما نرى الإنسان لا يلجأ لربه ولا يُصلح ما بينه وبين خالقه إلا إذا اختلَّ عنده شيء، وعزَّتْ عليه أسبابه، فلا يجد إلا ربه فيقول: يا رب، يا الله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد