الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ }

قوله تعالى: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } [الصافات: 11] أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: سَلْهم، واستفتى طلب الفتوى لأن الألف والسين والتاء تدل على الطلب، والفتوى من الفُتوَّة، فحين يكون الإنسان بصدد شيء، يريد أن ينفذه، ولا يعرف فيه طريق الحق والصواب يذهب إلى مَنْ هو أعلم منه يستفتيه. يعني: يطلب منه الفتوى أو الفتوَّة، والقوى الدافعة له على العمل، فكأنه كان ضعيفاً وأراد أن يَقْوَى برأي غيره. فكأن الحق - سبحانه وتعالى - استأمنهم أنْ يُفتوا، وأنْ يجيبوا هم لأنه سبحانه واثق من أن الخصوم لن يجدوا إلا قَوْلة الحق ينطقون بها لذلك لم يأتِ سبحانه بالمراد إخباراً، إنما أتى به إقراراً منهم وشهادة لأن الخبر يحتمل الصدق أو الكذب، أمَّا الإقرار فلا يستطيع أحد إنكاره لذلك قالوا: الإقرار سيد الأدلة. ومضمون السؤال { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } [الصافات: 11]؟ يعني: أهم وأعظم وأشدّ خَلْقاً من السماء والأرض، ثم لم يَأْت بالجواب لوضوحه، ولن يكون إلا أنّ خَلْق السماء والأرض أشدُّ من خَلْقهم وأعظم لذلك قال سبحانه في موضع آخر:لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر: 57]. فإنْ أردتَ أنْ تُدلِّل على هذه المسألة فتأمل خَلْقك وخَلْق السماوات والأرض، فالسماء والأرض مع أنهما يخدمانك، إلا أنهما أطول عمراً منك وأبقى، فهما منذ خلقهما الله باقيان لم يزولا، أما الإنسان فيموت وهو طفل، ويموت وهو شاب، ويموت وهو شيخ، يموت ويترك التركة باقيةً تتوارثها الأجيال. إذن: هما أشدّ وأقوى لأنهما مخلوقان خلقة دائمة، وأقوى من ناحية أنهما محكومان باختيارهما حين قالتا:أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]. فاختارا أن تكونا مُسخَّرتين قال تعالى:إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. وقلنا: إن هناك فَرْقاً بين قدرة النفس على تحمُّل الأمانة وقدرتها على الأداء، فقد تتحمل الأمانة وتنوى أداءها، لكن لا تضمن نفسك عند الأداء، فربما تغيَّرتْ الظروف، أو طرأ عليك ما يحول بينك وبين أدائها لذلك امتنعت السماوات والأرض عن حَمْل الأمانة، وخرجت عن مرادها لمراد ربها، فكانت مُسخَّرة. إذن: فهي أيضاً مُخيَّرة إلا أنها اختارتْ بكلمة واحدة منسحبة على الزمن كله، أما الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً ينفذ أو لا ينفذ. ثم إن السماء والأرض وما بينهما وما فيهما من مخلوقات وكواكب وأجرام وأفلاك تسير وفق نظام دقيق مُحكَم، لا يشذ ولا يتخلف أبداً:ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 5-6]. وقال:لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40].

السابقالتالي
2 3