الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } * { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

هنا أيضاً اعتبر التخويفَ من جهنم وعداً لا وعيداً، وسبق أنْ عرفنا أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، ومن ذلك قول الشاعر:
يَا دَهْرُ يَا مُنْجِزَ إيعَادِهِ   وَمُخْلِفَ المأْمُولِ مِنْ وَعْدِهِ
وقُلْنا: سَمَّى ذلك وعداً لأن التحذير من الشر قبل الوقوع فيه يُعَدُّ خيراً لأنك تستطيع تدارك الأمر، وتصحيح الخطأ. وقوله سبحانه: { ٱصْلَوْهَا } [يس: 64] ادخلوها، واصْطَلُوا بنارها، واحترقوا بلظَاهَا، { ٱلْيَوْمَ } [يس: 64] أي: يوم الجزاء اليوم القائم الذي نحن فيه، أما ما قبله فقد مضى ومضتْ معه اللذات التي جاءت بكم إلى النار، ذهبتْ اللذات وبقيتْ تبعتها، ولم يعُد أمامكم إلا النار تحترقون فيها { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [يس: 64] يعني: هذه النار ليست ظُلْماً، إنما جزاء كفركم بنعمة الله، وهذا تقريع لهم لأنهم لم يعرفوا للحق سبحانه نعمه عليهم، ولو عرفوا لله هذه النعمة ما كفروا بها. لذلك حين تُحسِن إلى إنسان، فيقابل إحسانك بالإساءة يخجل أن يقابلك، ويستطيع أنْ يتحمل منك أيَّ عقاب، إلا أن تواجهه أنت، لماذا؟ لأن حياء المسيء من المحسن أشدُّ عليه من العذاب، فكأن الله تعالى يقول لهؤلاء الكفرة بنعمه: استحيوا من الله، لأنه أنعم عليكم فكفرتم بنعمه، ولو أن عندكم إحساساً لكان تذكيركم بكفركم أشدَّ عليكم من هذه النار التي تَصْلوْنها. ثم يقول سبحانه واصفاً حالهم، والعياذ بالله: { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65]. قوله: { ٱلْيَوْمَ } [يس: 65] أي: يوم القيامة والجزاء { نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [يس: 65]. نضرب عليها فلا يستطيعون الكلام، فالأفواه مَنَاط الكلام، وقبل أن يختم الله على أفواههم في الآخرة ختم على قلوبهم في الدنيا، بالأمس ختم اللهُ على القلوب فلا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، واليوم ختم الله على الأفواه ومنعهم الكلام، حتى لا يعتذرون ولا يستغفرون. فالمقام هنا مقام حساب لا عمل، فلا جدوى من الاستغفار، ولا فائدة من الاعتذار، بل انتهى أوان الكلام والمنطق، ولم يعُد للسان دَوْر، اليوم تُغْلَق الأفواه وتُقيَّد الألسنة لتنطق الجوارح. وتأمل بعدها: { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65] القياس كان يقتضي أنْ يقول الحق سبحانه { 1649;لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [يس: 65]. ومثلها: ونُنْطِق أيديهم ونُشهِد أرجلهم، لكن السياق القرآني هنا مختلف، فبعد أنْ يختمَ اللهُ على أفواههم تُكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً، وتشهد أرجلهم تطوعاً لا أمراً، فلم نقل للأيدي: تكلمي، ولم نقل للأرجل: اشهدي. وإنما تطوعتْ هذه الجوارح بالشهادة، مع أنها هي نفس الجوارح التي بُوشِرت بها المعاصي والذنوب في الدنيا، ومع ذلك تشهد لا على نفسها، إنما على النفس الواعية التي أخضع اللهُ لها الجوارح، وأمرها أن تسير وِفْق مرادها، ورهْنَ إشارتها في الدنيا.

السابقالتالي
2