الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

كأن سائلاً سأل: وهل يستحق الكفار كلَّ هذا العذاب وهذا الغضب من الله تعالى؟ فيجيب الحق سبحانه: نعم، يستحقون لأن الله نبَّههم وحذرهم فلم يستجيبوا، ذلك في قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } [يس: 60]. فالحق سبحانه لم يأخذكم على غِرَّة، إنما نبَّهكم وبيَّن لكم مداخل الشيطان وحبائله وحِيلَه لأن الشيطان من خيبته رمى بكل مداخله مع المؤمنين أمام الله، فحذرنا الله منها، وبيَّن لنا عداوته لنا، وعداوته المسبقة مع آدم عليه السلام منذ أنْ أُمِر بالسجود فأبى. ولم يَنْتهِ أمره عند عدم السجود، إنما أغوى آدم، وأراد أن ينتقم منه ومن ذريته من بعده، بل وأقسم على ذلك أمام خالقه سبحانه، فقال بجبروت الإغواء كما حكى القرآن:فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82] لكنه تذكر عبوديته الحقة للرب الأعلى، فقال:إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83]. فهؤلاء لا مدخلَ لي إليهم، والمعنى أن الخصومة ليست بيني وبينك، إنما بيني وبين آدم. وحين أقسم إبليس، أقسم قسماً يؤكد قدرته على ما يهدد به، فمثلاً سحرة فرعون حين أقسموا قالوا:بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } [الشعراء: 44]. أمَّا إبليس فيعرف جيداً كيف يقسم، فقالفَبِعِزَّتِكَ } [ص: 82] يعني: باستغنائك عن خَلْقك، مَنْ شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليكفر، هذا هو الباب الذي سأدخل منه إليهم، أمَّا من تريده أنت يا رب، فلا أستطيع أن أقترب منه. ومعنى { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } [يس: 60] يعني: آمركم كما في قوله تعالى:وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115]. يقول تعالى: ألم آمركم يا بني آدم أنْ تحذروا مكايد الشيطان، وأن تتنبَّهوا إلى مداخله إليكم وشباكه وخططه، ألم يقل هو نفسه:لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] إذن: كان ينبغي ما دُمْتم أخذتم المصْل الواقي أن تكون لديكم المناعة اللازمة لمواجهة هذا العدو، خاصة وقد أسفر عن وجهه، وأوضح خططه، فهو لكم على الصراط المستقيم، ومداخله من سبل الطاعة لا من سبُل المعصية، الشيطان لا يأتي أهل الفجور ورُوَّاد الخمارات، إنما يأتي أهل الطاعات ليفسدها عليهم. وصدق الشاعر الذي قال عَمَّن أسرف على نفسه في المعاصي:
وَكُنْتُ امْرءاً مِن جُنْدِ إبْليسَ فَارْتَقَى   بِيَ الحَالُ حَتَّى صَارَ إبْليسُ مِنْ جُنْدِي
ومعنى: { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } [يس: 60] عبادته طاعة نزغاته ووسوسته، والعلة في ذلك { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يس: 60] يعني: عدو بَيِّن العداوة، محيط بأساليب الكَيْد لأعدائه. وبعد أن نهانا ربنا - تبارك وتعالى - عن عبادة الشيطان يُوجِّهنا إلى العبادة الحقة: { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس: 61] حين نتأمل هاتين الآيتين نجد أن العلة في النهي عن عبادة الشيطان { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يس: 60] كان القياس في الآية بعدها: وأن اعبدوني لأنني حبيبكم كما جاء في الحديث القدسي:

السابقالتالي
2