الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }

يعني: كان يكفي هؤلاء المكذبين أن ينظروا مصير مَنْ كذَّب قبلهم، وما حاق بهم من العذاب، وأنهم بعد أنْ أهلكهم الله لم يرجع منهم أحد. وكلمة { يَرَوْاْ } [يس: 31] من الفعل رأى، وهى تأتي: بصرية أو علمية، تقول: رأيت المشهد، فهذه رؤية بصرية، وتقول: رأيت هذا الرأي يعني علمته، والرؤية البصرية تقصر معلوماتك على ما اتصلتْ به جارحتك، أمّا العلمية فتعطيك ما اتصلتْ به جارحتك وجوارح الآخرين، فالرؤية العلمية إذن أوسع من البصرية. لذلك قال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1]. ومعلوم أن سيدنا رسول الله وُلِد في عام الفيل، وربما بعد هذه الحادثة، إذن: لم يَرَ منها شيئاً رؤية بصرية، ومع ذلك خاطبه ربه بقولهأَلَمْ تَرَ } [الفيل: 1] يعني: ألم تعلم، سواء أكان قومه قصُّوا عليه القصة، أو أن الله تعالى أخبره بها. والرؤية البصرية للأحداث أوثق وسائل الإدراك لأنه كما يقولون: ليس مع العين أين، لكن لماذا عدل السياق عن ألم تعلم إلى ألم تر؟ قالوا: في هذا إشارة من الحق سبحانه لنبيه يقول له: إن إخباري لك بقضية علمية أوثق من رؤيتك بعينك. وقوله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ } [يس: 31] تعني أن من هؤلاء القوم مَنْ رأى بالفعل مصارع المكذِّبين، ومرَّ على ديارهم وهي خاوية على عروشها في أسفارهم ورحلات تجارتهم في الشتاء والصيف، ومعنى { كَمْ } [يس: 31] تفيد الكثرة، وأنه أمر فوق الحصر كما تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنتُ إليك وكأنك تقول له: أنا أرتضى حكمك وأستأمنك أنت على الجواب، وبذلك تحوَّل الإخبار منك إلى أقرار منه هو. ومعنى: { مِّنَ ٱلْقُرُونِ } [يس: 31] القرون جمع قرن، وهو فترة من الزمن قدَّروها بمائة عام، والقرن أيضاً يعني الجماعة أو القوم يجمعهم الشيء الواحد مهما طالتْ فترته كالدين الواحد، أو حكم ملك من الملوك.. الخ. فمثلاً نقول: قوم نوح وقد أخذوا من الزمن مساحة ألف عام أو يزيد. وقوله: { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [يس: 31] يحتمل أكثر من معنى حسب عَوْد الضمير في أنهم وفي إليهم فالآية تتحدث عن قرون أُهلِكَتْ من قبل وتخاطب مكذِّبين معاصرين، فإنْ عاد ضمير الغائبين في أنهم إلى القرون التى أهلكت. فالمعنى: أنهم لا يرجعون، ولم نَرَ أحداً منهم رجع بعد هلاكه، وإنْ عاد الضمير على المخاطبين الموجودين. فالمعنى: أنكم أيها المخاطبون، لا ترجعون في نسبكم إلى هؤلاء الذين أهلكهم الله لأن الله تعالى استأصلهم بحيث لم يُبْق منهم أحداً ولا نسلاً. والآية في مجملها تعني أن هلاك الكافرين والمكذبين ليس بدعاً: بل هو سنة مُتَّبعة على مَرِّ الزمان، فالقرآن يقصُّ علينا ما نزل بعاد وثمود وفرعون:

السابقالتالي
2 3