الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } * { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } * { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قوله سبحانه: { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [يس: 20] يدل على أن الرسولين الأولين اللذين كذَّبهما القوم كان لهما أنصار مؤمنون بهما، مُصدِّقون لدعوتهما، فلما جاء الثالث وأيضاً كذَّبه القوم أخذتْ هؤلاء المؤمنين حَمِيَّة الحق، وكان منهم هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لِنُصْرة الحق وإعلاء كلمته، وقالوا: اسمه حبيب النجار. ونلحظ في هذه الآية أولاً قوله سبحانه: { مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ } [يس: 20] أنه لم يكن قريباً من مكان هذه المناظرة الكلامية، وأنه تحمَّل المشاق في سبيل نُصْرته للحق، وهذا دليل على قوة الطاقة الإيمانية عند هذا الرجل، ودليل أيضاً على أن الرسولين السابقين قد بلغت دعوتهما أقصى المدينة. ثم وصفه بأنه رَجُلٌ ولم يَقُلْ فلان، فذكر الصفة البارزة في تكوينه أنه رجل. وهِمَّة الرجل هي التي تحدد مقدار رجولته، فرجل يريد الحياة لنفسه فقط والكل يخدمه، يرى كل شيء لنفسه ولا يرى نفسه لأحد، هذا رجل وطنه نفسه وذاته، ورجل وطنه أهله وعياله يُعدِّي إليهم منفعته، ورجل وطنه أمته، ورجل وطنه العالم كله مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو فلسفة الرجل. إذن: هِمَم الرجال هي التي تحدد أوطانهم ومنازلهم، وأعلى هذه المنازل رجل وطنه العالم كله لأن الخَلْق كلهم عيال الله، فمَنْ يحب الخير لهم وينثر عليهم ما ينفعهم فقد استأمنه الله على رزق العباد. ومثّلنا لبيان ذلك قلنا: هبْ أن لك أولاداً، واحداً منهم يأخذ مصروفه فينفقه على ملذاته ورغباته وفيما لا يفيد، والآخر يشتري بمصروفه حلوى ويُوزِّعها على إخوته الصغار، فأيهما تُؤثِره بعد ذلك، وأيهما تزيده؟ كذلك اليد المناولة عن الله لخَلْق الله، وكأن الله يقول له: أنت مأمون على نعمتي، مأمون على خَلْقى، ومن ذلك قول الشاعر:
وَإنِّي امْرُؤٌ لاَ تَسْتَقِرّ دَرَاهِمِي   عَلَى الكَفِّ إلاَّ عَابِرَاتِ سَبيلِ
وقوله { يَسْعَىٰ } [يس: 20] يعني: أن مجيئه لم يكُنْ عادياً، إنما مسرعاً يجري { قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [يس: 20] وقوله { يٰقَوْمِ } [يس: 20] نداء لتحنين المنادَى، كأنه يقول: يا أهلي، يا عشيرتي، يا أبنائي، فذكر ما بينه وبينهم من صلات المودة والرحمة. وقوله { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [يس: 20] يدل على تأييده لهم، وهو هنا يذكر الحيثية الأولى لهذا الاتباع هي أنهم مرسلون، ثم يذكر لهم حيثية أخرى فيقول: { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [يس: 21] يعني: لم يطلبوا منكم أجراً على دعوتهم. وكلمة { مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } [يس: 21] لا تُقال إلا إذا كان العمل الذي قام به يحتاج إلى أجر، والرسول ما جاء إلا لينفع المرسَل إليهم، فهو منطقياً يحتاج إلى أجر، لكن مَنْ يستطيع أنْ يوفيه أجره؟ لا أحد يوفيه أجره إلا الله لأن نَفْع الرسول يتعدَّى نفْع الدنيا إلى نفع الآخرة، فمَنْ من البشر يعطي الرسول ما يستحقه؟ لذلك رأينا الرسل جميعاً يقولون هذه الكلمة

السابقالتالي
2 3 4