الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ }

معنى: يرسل الرياح يعني: يحركها، وبتحريك الرياح يتم استيعاب خير الوجود كله، ألاَ ترى أن الريح إذا سكنتْ يتضايق الإنسان ويحاول تحريكها بنفسه بيده أو بالمروحة مثلاً لأن حيِّزَك في التنفس لا يتم إلا بتحريك الهواء، وتغيير ثاني أكسيد الكربون ليحل محلَّه الأكسوجين، ولا تتم هذه العملية إلا بتحريك الهواء لذلك يقولون: إذا لم يمرّ عليك الهواء فمُرّ أنت عليه. يعني: حرِّكه أنت. ونتيجة حركة الرياح إثارة السحب { فَتُثِيرُ سَحَاباً } [فاطر: 9] يعني: تُهيِّجه وتُحركه من أماكنه، بحيث يذهب بعد تجمُّعه إلى حيث أراد الله أنْ ينزل المطر، إذن: حركة السحاب ليست ذاتية، وإنما تابعة لحركة الرياح، وهذه المسألة تساعدنا في فهم قوله تعالى:وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88]. فالجبال التي نحسبها ثابتة هي في الحقيقة تمر وتتحرك كحركة السحاب، وكما أن السحاب لا يمر بذاته، إنما بحركة الرياح، كذلك الجبال لا تمر بذاتها، إنما بحركة الأرض والجبال ثابتة على الأرض كالأوتاد لذلك تتحرك بحركتها:صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [النمل: 88]. البعض لم يفطن إلى حركة الأرض التي تتبعها حركة الجبال، فقال في قوله تعالى:وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88] أن هذا في الآخرة، لكن أين هي الجبال في الآخرة والله يقول عنها:وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } [المعارج: 9] ثم، كيف يمتنُّ الله عليها ويحتج ببديع صُنْعه في حركة الجبال في الآخرة، حيث لا تكليف، ولا موضع لتحنين القلوب وعَطْفها إلى الإيمان. هذا عن حركة الرياح، أما عن سكونها، فيقول تعالى:إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ } [الشورى: 33] والمراد: السفن التي تُسيِّرها الرياح، فإنْ قُلْتَ: فهل يظل لهذه الآية هذا المعنى بعد التطور الذي طرأ على السفن، وبعد أن تلاشتْ القلاع وحَلَّ محلها الآلات التي تُسيِّر السفن دون حاجة إلى حركة الهواء؟ نقول: نعم ستظل الآية تحمل هذا المعنى إلى ما شاء الله لأن الاختراعات الحديثة لم تفاجئ خالقها عز وجل، ومَنْ قال: إن الريح هو الهواء؟ الريح هو القوة أياً كانت، واقرأ قوله تعالى:وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [الأنفال: 46] يعنى: قوتكم أيّاً كانت قوة هواء، أو قوة كهرباء، أو قوة بخار ومحركات.. الخ. ونلحظ في أسلوب هذه الآية أن الفعل { أَرْسَلَ } [فاطر: 9] جاء في صيغة الماضي، لكن تثير في صيغة المضارع، ولم يقل سبحانه: فأثارت سحاباً، قال: أرسل يعني: أمر أنْ ترسل، فهذه مسألة انتهت وفُرغ منها، أما إثارة السحاب وتحريكه فمسألة مُتجدِّدة مستمرة في كل لحظة، فناسبها المضارع الدال على الحال والاستقبال. أو: أن المعنى { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } [فاطر: 9] جاء في الماضي لأن الكلام عن الغيب، والاسم الظاهر غيب وهو لفظ الجلالة، ثم انتقل من الغيب في { أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ } [فاطر: 9] إلى مقام المتكلم، فقال { فَسُقْنَاهُ } [فاطر: 9] كأن الله يلفتك بالنعمة إلى غيب هو الله تعالى، فحين تستحضر أنه الله الذي فعل أصبحْتَ أهلاً لمكالمة الله لك.

السابقالتالي
2