الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }

معنى: { أَحَلَّنَا } [فاطر: 35] أدخلنا وجعلها محلاً لنا { دَارَ ٱلْمُقَامَةِ } [فاطر: 35] أي: الإقامة الدائمة والمراد الجنة، فالجنة دار إقامة دائمة. أما الدنيا فما هي إلا معبر إلى الآخرة، ولا تُسمَّى دار إقامة. وهذه الجنة جعلها الله محلاً لهم ليس بأعمالهم، إنما بفضل من الله وتكرُّم، حتى إنْ كان لك عمل صالح فهو راجع إلى تشريع الله لك. إذن: كله يعود إلى فضل الله. وقولهم: { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا } [فاطر: 35] أي: في الجنة { نَصَبٌ } [فاطر: 35] أى: تعب ومشقة { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر: 35] يعني: إعياء وفتور نتيجة التعب من حركات الأجهزة. والإنسان مِنَّا في سعيه في الدنيا يتعرض لكثير من المشاق، حتى أننا نقول يضرب في الأرض يعني: يسعى فكأنها عملية مرهقة شاقة يعود الإنسان منها مُتْعباً مُنْهكاً، هذا هو اللُّغُوب إلى أنْ ترتاح منه وتستجم، وتعود لك قوتك ونشاطك للعمل من جديد. ومن هذا المعنى قوله تعالى:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق: 38]. وقال بعضهم: النَّصَب: تعب الجوارح. واللغوب: تعب الصدور، ويُراد به الهم الذي يشغل بال الإنسان. وهذا المعنى قال فيه شوقي رحمه الله:
لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظهْرُ   مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْرُ
والإمام على رضي الله عنه لما سُئِل عن أشدِّ جنود الله في الأرض، قال: الهَمّ. فإنْ تسلط على إنسان أقلقه وأقضَّ مضجعه لذلك قالوا: والهمّ يغلب النوم، فكان أشد منه، وما يزال الهم بالإنسان حتى يصير نحيلاً بعد البدانة، كما قال المتنبي:
والهَمُّ يغتنم الجَسِيمَ نَحَافَةً   ويُشِيبُ نَاصِيةَ الصَّبِيِّ ويُهرِمُ
بعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه وتعالى عن أهل الإيمان المصطفين من عباده، وعن جزائهم في جنات عدن لتستبشر النفس، وتتفتح إلى بشارات الأتقياء يذكر سبحانه ما يقابل ذلك من نذارات الأغبياء، وذِكْر المقابل يزيد المعنى وضوحاً، وهو سِمَة من سمات الأسلوب القرآني، كما في قوله تعالى:إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14]. وقوله سبحانه:فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة: 82]. كذلك هنا يقول سبحانه: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ... }.