الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }

الوحي في معناه العام كما قلنا: إعلام بخفاء، فإنْ كان جهراً وعلانية فلا يُعَدُّ وَحْياً، فأنت مثلاً يدخل عليك جماعة من الضيوف فتنظر مجرد نظرة إلى خادمك يفهم منها ما تريد دون أنْ يشعر أحد بك، هذا يُعَد وحياً. كذلك الوحي الشرعي لا يأتي علانية، إنما خُفية بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. الوحي يختلف باختلاف الموحِي، والموحَى إليه، والموحَى به. فالله تعالى يُوحي للجماد، كما أوحى للأرض:بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [الزلزلة: 5]. ويُوحي للنحل:وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً.. } [النحل: 68]. وأوحى البشر من غير الرسل:وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص: 7] وأوحى للحواريين. أما الوحي الشرعي الذي يتعلّق بالتكاليف فَوَحْي من الله وخطاب إلى الرسُل بمنهج ليبلغوه عن الله، وليس مجرد خاطر أو إلهام كالوحي السابق، ومن الوحي أنْ يُوحي الشياطين إلى أوليائهم، يقول الحق سبحانه:وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121]. قوله تعالى: { وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } [فاطر: 31] أي: من القرآن. أو من اللوح المحفوظ { هُوَ ٱلْحَقُّ } [فاطر: 31] أي: القرآن هو عَيْن الحق، وقد عرفنا من دراساتنا النحوية أن المبتدأ يأتي دائماً معرفة، لأنك ستحكم عليه، ولا يمكن أن تحكم على مجهول فتقول مثلاً: زيد مجتهد. فزيد معروف لك حكمتَ عليه بأنه مجتهد، إذن: المجهول هو الخبر، لذلك يأتي نكرةً دائماً، فإذا قلتَ زيد هو المجتهد، فإن هذا يعني أنه بلغ من الاجتهاد مبلغاً، بحيث إذا أُطلِق الاجتهاد لا ينصرف إلا إليه. كذلك في قوله تعالى { هُوَ ٱلْحَقُّ } [فاطر: 31]: أي: لا ينصرف الحق إلا إليه، وهو عَيْن الحق، ومعنى الحق الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتضارب، وحتى لا يفهم أحد أنه ما دام القرآن هو الحق فغيره من الكتب السابقة باطل، قال سبحانه: { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [فاطر: 31] فالقرآن حق ومُصدَّق لما سبقه من الكتب السماوية، فهي أيضاً حق لأن القرآن صدَّق عليها، ولم يأتِ مخالفاً لها. وفي موضع آخر، قال تعالى:وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة: 48]. فكأن الحق سبحانه يعطي للقرآن صَوْلة الخاتم النهائي في الإكمال البشري، فإنْ جاء حكم في الكتب السابقة ثم نزل حكم آخر في القرآن فلنأخذ بالحكم الأخير لأنه نسخ الأول لمصلحة يقتضيها العصر وطبيعة التكاليف التي تتدرج حسب حالات الأمم. فكأن الحق سبحانه ميَّز رسوله صلى الله عليه وسلم بميزة لم تتوفر لغيره من الرسل، وهي أن الرسل السابقين كانوا يُبلِّغون ما يُوحَى إليهم لأممهم، لكن الله أذن لرسوله أن يُبلِّغ عن الله وفوَّضه أن يُشرِّع لقومه لذلك قال سبحانه:وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }

السابقالتالي
2