الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } * { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }

بعد أن ذكر الحق سبحانه العلم الكوني، وأنه وسيلة لخشية الله ومعرفة أسراره في كونه أراد سبحانه أنْ يلفت أنظارنا وأنْ يحذرنا: إياكم أنْ تُفتنوا بالعلم الكوني فينسيكم مهمتكم في أنْ تتلقَّوا عن الله ما يُسعدكم، فتحدَّث سبحانه عن المنهج: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ } [فاطر: 29] وهذا هو العلم الشرعي والذِّكْر الذي يعصم الناس من اختلاف الأهواء. ومعنى { يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ } [فاطر: 29] أي: تلهج به ألسنتهم، وتعيه قلوبهم { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } [فاطر: 29] وهذه عبادة تشترك فيها كل الجوارح { وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [فاطر: 29] والإنفاق يخصُّ الناحية المالية، فهو دليل على سماحة النفس بما تنفق، وحُبها للبذل والعطاء في السِّر والعلانية، وبالإنفاق تكتمل لهذه النفس الصفات الطيبة، ويجتمع لها عمل القلب وعمل الجوارح في طاعة الله. وقوله: { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } [فاطر: 29] يعني: أن الإنفاق ليس من مالك الخاص، إنما من مال الله الذي رزقك، وجعلك مُسْتخلَفاً فيه وما نفقتُكَ إلا سبب، والأسباب في الكون ستر ليد الله في العطاء. وهؤلاء الذين ينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [فاطر: 29]. فالإنفاق في سبيل الله تجارة مع الله { لَّن تَبُورَ } [فاطر: 29] أي: لن تكسد، وأنت حين تنفق على المحتاجين، وحين تطعم الجائع إنما تُحبِّب الله إلى خَلْقه أرأيت لو أن مَلِكاً من ملوك الدنيا له عبيد، أليس مكلَّفاً بإطعامهم وسَدِّ حاجتهم، وهذه من سمات العظمة فيه، كذلك الحق سبحانه هو خالق هؤلاء الفقراء، وهو الذي استدعاهم للوجود، وهو سبحانه المكلّف باقتياتهم. إذن: حين تطعمهم أنت فكأنك تؤدي مهمة الله عز وجل، وتُحبِّب خَلْق الله إلى الله، فالحق سبحانه حين يعطف مخلوقاً على مخلوق يقول: كأن عبدي يعينني على خَلْقي لأن الله تعالى استدعى الخَلْق للوجود، وتكفَّل بأن يُغنيهم، فحين يأتي عبده الغني ويكون في عَوْن الفقير يقول سبحانه: كان عبدي في عون أخيه بقدرته، فلا بُدَّ أنْ أكون في عونه بقدرتي، فالعبد لا يكون أبداً أكرم من خالقه، وكيف يعطف العبد وهو لم يخلق شيئاً، ولم يستدع أحداً للوجود، ولا يعطف الخالق سبحانه؟ فإنْ قلتَ: ما دام الحق سبحانه قد استدعى الخَلْق للوجود، فلماذا لم يضمن لهم الحياة الكريمة التي لا يحتاجون فيها لعطف أحد غيره؟ نقول: أراد الحق سبحانه أنْ يزرع بذور المحبة والتعاطف بين خَلْقه، أراد مجتمعاً مسلماً قائماً على المحبة وعلى التعاون وعلى التكافل، ثم وَعَد سبحانه السخيَّ المعطي بأنْ يعامله بقدر سخائه وعطائه هو سبحانه. هذه هي التجارة مع الله التي لا تبور، والبَوْر والبَوار. أي: الفساد وهو يصيب التجارة من ناحيتين: إما فساد في الربح، كأن تتبعك التجارة ولا تربح، أو فساد في الربح وفي الأصل يعني: تخسر أصل التجارة، ومعلوم أن الإنسان لا يتاجر إلا بقصد الربح لذلك قال أهل المعرفة وأهل التجارة مع الله: إنْ أردتَ الربح المحقق فتاجر مع كريم وهبك ما تجود به، وبعد ذلك يجازيك عليه.

السابقالتالي
2 3 4