إذن: فالاختلاف في كل الأجناس لأن الخَلْق قائم على طلاقة القدرة، فالناس مع كثرتهم مختلفون، وهذا إعجاز دالّ على طلاقة القدرة، فالخَلْق ليس على قالب واحد يُخرِج نسخاً متطابقة، إنك تنظر إلى الرجل فتقول هو شبه فلان، لكن إذا دققتَ النظر لا بُدَّ أنْ ترى اختلافاً، إذن: طلاقة القدرة تقتضي اختلاف كل أجناس الوجود: الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان. ومعنى الدوابّ: كل ما يدبّ على الأرض عدا الإنسان والأنعام التي هي البقر والغنم والإبل والماعز. وقوله سبحانه: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء.. } [فاطر: 28]. والخشية هي الخوف الممزوج بالرجاء، وهذا من العلماء عمل من أعمال القلوب، وأنت تخاف مثلاً من عدوك، لكن لا رجاءَ لك فيه، إنما حين تخاف من الله تخافه سبحانه وأنت ترجوه وأنت تحبه، لذلك قالوا: لا ملجأ من الله إلا إليه. والعلم إما علم شرعي، وهو علم الأحكام: الحلال والحرام والواجب والسنة.. الخ. أو علم الكونيات، وهذه الآية وردت في سياق الحديث عن آيات كونية ولم يُذكر قبلها شيء من أحكام الشرع لذلك نقول: إن المراد بالعلماء هنا العلماء بالكونيات والظواهر الطبيعية، وينبغي أن يكون هؤلاء هم أخشى الناس لله تعالى لأنهم أعلم بالآيات الكونية في: الجمادات، والنبات، وفي الحيوان، والإنسان، وهم أقدر الناس على استنباط ما في هذه الآيات من أسرار لله تعالى. وكونيات الوجود هي الدليل على واجب الوجود، وهي المدخل في الوصول إلى الخالق سبحانه وإلى الإيمان به لذلك كثيراً ما نجد في القرآن:{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [الروم: 23]. وإذا كان العلم قضية يقينية مجزوماً بها وعليها دليل، فإن الحق سبحانه وتعالى نزَّل لنا علم الشرع وحدَّد لنا حدوده، فلا دَخْلَ لنا فيه، لذلك عصمه الله وأحكمه لأن الأهواء تختلف فيه، والحق سبحانه يقول:{ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } [المؤمنون: 71]. أما علم الكونيات فقد تركه الخالق سبحانه للعقول تبحث فيه وتستنبط منه وتتنافس فيه، بل وتسرقه بعض الدول من بعض. وآفة العصر الحديث أنْ يُدخِل علماء الشرع أنوفهم في الكونيات، أو أن يُدخِل علماء الكونيات أنوفهم في أحكام الشرع، وقد رأينا مثلاً لما قالوا بأن الأرض كروية، وأنها تدور حول الشمس، أسرع بعض علماء الشرع فاتهموا هؤلاء بالكفر، وهذا خطأ فادح، وكان عليهم أنْ يأخذوا من الحق سبحانه ما عصم به الأهواء من أن تختلف لأن شكل الأرض وحركتها مسألة كونية لا صِلَة فيها بالحلال والحرام. والحق سبحانه يقول:{ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] فأهل الذكر في العلوم الشرعية غير أهل الذكر في العلوم الكونية، ويجب أنْ يحترم كل منهما تخصص الآخر في مجاله، ولا يَنْسَى علماء الشرع أن علماء الكونيات هم الذين يكتشفون لنا أسرار الله في الخَلْق، وهم الذين يُربُّون في نفوسنا أدلة الإيمان بواجب الوجود الذي تصدر عنه أحكام الحلال والحرام.