الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }

الحق: هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، والله تعالى يضرب لنا مثلاً حسياً لتوضيح الحق والباطل، فيقول سبحانه:أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17]. وقد ترجمنا هذه العلاقة بين الحق والباطل ترجمة عصرية فقلنا: لا يصح إلا الصحيح، نعم لأن الباطل وإنْ أخذ صورة الحق مرة بعض الوقت، فهو كالزَّبَد الذي سرعان ما تزيحه الرياح لتكشف وجه الحقيقة الناصع والحق الواضح. وقوله تعالى لنبيه: { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } [فاطر: 24] يدل على أنه الرسول الخاتم الذي لا رسول ولا نبي بعده يغير شيئاً مما جاء به، فالنبي جاء بالحق الثابت الذي لا يتغير أبداً، ولا يستدرك عليه أحد بعده. لذلك فإن آفة البشرية الآن أنها تحكم العصر وتطور الأوضاع في الحكم على المخالفات الشرعية، فحين نتعرض لمخالفة نسمع مَنْ يقول إنه التطور الذي لا بُدَّ منه، وهؤلاء هم دعاة عَصْرنة الدين، يعني تطويع الدين ليلائم العصر. وهذا يعني أن تطور العصر هو المشرع، في حين أن المفروض أن العصر هو الذي يستقبل تشريع السماء ويبني حركة حياته على هَدْيه ونوره لأن الحركة التي تُبْنى على هَدْي السماء هي الحركة العليا من الرب الأعلى الذي يعلم حقيقة الخير لك ولا يستدرك عليه، أما إنْ شرع لك إنسانٌ مثلك، فحتى هو لو دَلَّك على الخير فهو خير من وجهة نظره وعلى قدر علمه، فلا بُدَّ أنْ يكون فيه نقص وقصور، ولا بُدَّ أنْ يأتي بعده مَنْ ينقضه ويستدرك عليه. لذلك رأينا حتى غير المسلمين تُلجئهم أقضية الحياة إلى أن يأخذوا بحلول الإسلام للتغلب على مشاكلهم، وهم بالطبع لا يأخذون أحكام الإسلام حباً فيه، إنما لأنهم لم يجدوا حلاً في غيره. ومن هذه القضايا قضية الطلاق التي طالما أثاروا حولها الشكوك وظنوها مأخذاً على الإسلام، والآن في إيطاليا يقررون الطلاق، لا لأن الإسلام شرَّعه، إنما لأن مشاكلهم لا تُحَلُّ إلا به. وهذه المسألة توضح لنا معنى قوله تعالى:هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]. لذلك سُئِلْنا في بعض رحلاتنا: القرآن يقول:لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9] وفى آية أخرى:وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [الصف: 8] فكيف تم نور الله ومع الإسلام ديانات أخرى كثيرة، ما زالت موجودة، وأغلبها أكثر من الإسلام عَدَداً وقوة؟ لقد فهم هؤلاء أن معنىمُتِمُّ نُورِهِ } [الصف: 8] أنْ يصير الناس جميعاً مسلمين، ولو كان الأمر كذلك ما قال الله تعالى

السابقالتالي
2