الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ }

معنى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } [فاطر: 18] لا تحمل نفس آثمة { وِزْرَ أُخْرَىٰ } [فاطر: 18] حِمْل نفس أخرى لأنها هي الأخرى مُثْقَلة بحِمْلها، والوزر هو الحِمْل الثقيل الذي لا يطيقه الظهر، ومنه قوله تعالى في مسألة الوحي:وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [الشرح: 2-3] يعني: أتعبك نتيجة التقاء الملائكية بالبشرية. لذلك " كان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقاً من لقاء جبريل، وهو الذي قال مُصوِّراً هذا اللقاء: " ضمَّني حتى بلغ مني الجهد " وعاد إلى أهله يقول: زملوني زملوني، دثروني دثروني " ومع هذا كله لما فتر الوحي اشتاق إليه وتمناه أنْ يجيء، لأنه ذاق حلاوته، وحلاوة الشيء تُنسيك ما تلاقيه من المتاعب في سبيله. والمعنى: لا تحمل وزر وذنب نفس أخرى مُثْقَلة بالذنوب والآثام، وقد شرح الحق لنا هذا المعنى فى قوله سبحانه:يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34-37] فكلٌّ مشغول بنفسه، مُرْتهَنٌ بعمله، لا وقت للمجاملة لذلك يقول الوالد لولده: يا بني حِمْلي ثقيل عليَّ، فخُذْ عني شيئاً منه. فيقول الولد: حسبي حِمْلي يا أبي. كذلك هنا { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا } [فاطر: 18] أي: نفسي مُثْقَلة بالآثام تطلب مَنْ يحمل عنها شيئاً من ذنوبها ولكن هيهات { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [فاطر: 18] أي: لو كان هذا النداء لأقرب الناس إليها ما أجاب وما حمل عنها، وكيف تحمل نفسٌ وِزْر نفس أخرى، وهي مشغولة بحِمْلها مثقلة به؟ لذلك يُكذِّب الحق سبحانه قَوْل الذين كفروا حين يتعرَّضون لحمل خطايا أتباعهم، فيقول سبحانه:وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [العنكبوت: 12-13]. إذن: هذه مسألة واضحة، فكلٌّ مشغول بنفسهكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر: 38]. فالإنسان في الدنيا مرتبط إما بقرابة لها حقوق عليه، وإما بإخوان وأصدقاء، وإما بمنقذ يستنجد به، وإنْ لم يكن قريباً ولا صديقاً، لكن يوم القيامة ستنحلُّ كل هذه العُرَى لأن الموقف لا يحتمل المجاملات ولا التضحيات. لذلك لما سمعتْ السيدة عائشة رضي الله عنها سيدنا رسول الله وهو يُحدِّثهم عن القيامة، ويذكر أن الشمس تدنو من الرؤوس والخَلْق يقفون عرايا، استاءتْ وسألت رسول الله: كيف يقف الناس عرايا ينظر بعضهم إلى عورة بعض؟ فأجابها رسول الله أن كل امرئ مشغول بنفسه، وأن الأمر أعظم من أنْ ينظر أحد لعورة أحد في هذا الموقف. ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [فاطر: 18] يعني: إنذارك يا محمد وتحذيرك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم بالغيب، أما الآخرون فقد ظلموا أنفسهم حين حرموها الخير الكثير الذي أراده الله لهم، ظلموها حين غرَّتهم الدنيا بنعيمها الفاني، وشغلتهم عن نعيم الآخرة الباقي الدائم.

السابقالتالي
2 3