الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }

قوله { إِن تَدْعُوهُمْ } [فاطر: 14] الدعاء هنا معناه العبادة، فقد كان الواحد منهم يقف أمام صنمه يدعوه ويتوسل إليه ويكلمه.. إلخ، لكن هيهات فهذا حجر لا يسمع، فدعاؤه غباء فضلاً عن كونه كفراً، ومعنى { لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } [فاطر: 14] أي: الآلهة التي لا تعقل ولا تسمع، كالشجر والحجر وغيره. لكن، لماذا عبد الكفار الأصنام مثلاً، وهم يعلمون أنها حجارة نحتوها بأيديهم، ويروْنَ أن هَبَّة الريح تُوقع معبودهم، وتُلقيه على الأرض، وتكسر ذراعه، فيحتاج إلى مَنْ يصلحها، شيء عجيب أنْ تُعبد الأصنام من دون الله، لكن السبب هو فطرة التدين في النفس البشرية. فكل إنسان بطبعه يحب التدين، وآفة التدين أن له مطلوبات، فما المانع أنْ يذهب الإنسانُ إلى تدين يرضي هذه الفطرة، ومع ذلك لا مطلوبات له، من هنا عُبدت الأصنام، وعُبدت الكواكب والأشجار وجُعِلَت آلهة. ومعنى العبادة: أنْ يطيع العابد أمر معبوده وينتهي عن نَهْيه، فإذا لم يكن هناك أمر ولا نهي، فالعبادة ساقطة باطلة لأنك تعبد إلهاً بلا منهج، وإلا فبماذا أمرتهم هذه الآلهة وعَمَّ نَهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ لمن عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمن كفر بها؟ وقوله تعالى: { وَلَوْ سَمِعُواْ } [فاطر: 14] أي: على فرض أنهم عبدوا بشراً يسمعهم { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } [فاطر: 14] يعني: ما وافقوا على عبادتكم لهم، ولرفضوا أن يكونوا آلهة، ومثال ذلك: الذين عبدوا عيسى عليه السلام من دون الله. وقد تناول الشاعر هذه المسألة حين تخيَّل أن غار ثور يَغَار من غار حراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مكاناً للخُلْوة وللتعبُّد، وفيه نزل عليه أول الوحي، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته بغار ثور فرح ثور، ورأى أن الرءوس قد تساوتْ، فحراء لبعثة رسول الله، وثور لهجرته، التي كانت منطلقاً للدعوة. يقول الشاعر:
كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حين تَرَى   الرُّوحَ أَمِيناً يَغْذُوكَ بالأَنْوارِ
فَحِرَاءٌ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً   بِهِما اشَفَعُ لأمَّةِ الأحْجارِ
عَبدُونَا ونحْنُ أَعْبَدُ للهِ   مِن القائمين بالأَسْحَارِ
تَخِذُوا صِمْتنا عَلَيْنَا دَليلاً   فَغدَوْنَا لهم وَقُودَ النَّارِ
قَدْ تجنَّوْا جَهْلاً كمَا قَدْ تجنَّوْه   عَلَى ابْنِ مريمَ والحوَارِي
لِلْمغَالِي جَزَاؤهُ والمغَالَي فِيه   تُنجِيه رحمةُ الغَفَّارِ
فالحجر ذاته يأبى أنْ يُعبد من دون الله، ويعلم في حقيقته قضية التوحيد، ويخِرُّ لله مُسبِّحاً، فما بالك بالبشر؟ لذلك سنرى في موقف القيامة العجب من المعارك والمناقشات بين العابد والمعبود، والتابع والمتبوع، يقول تعالى:إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [البقرة: 166] وقال حكاية عن الذين ضَلُّوا:رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } [فصلت: 29]. وهنا يقول سبحانه: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } [فاطر: 14] أي: هؤلاء الذين توجهتم إليهم بالعبادة واتخذتموهم آلهة سيتبرأون منكم ومن شرككم { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 14] أي: عالم ببواطن الأمور، وكأن الله تعالى يقول لك: أنا أخبرك بما سيكون في المستقبل فَخُذْ من صدقي فيما مضى دليلاً على صدقي فيما هو آتٍ، ومن صدقي فيما تشاهد دليلاً على صِدْقي فيما غاب عنك.