الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ }

تعرضت هذه الآية لقضية الخَلْق الأول للإنسان الخليفة، وهذا الخَلْق كان له مراحل، فالإنسان الأول وهو آدم عليه السلام خُلِق خَلْقاً أولياً من مادة الأرض، وهي التراب الذي يُخلط بالماء، فصار طيناً، هذا الطين مَرَّ بأطوار عدة، فالطين إنْ تركْتَهُ حتى يعطن وتكون له رائحة فهو الحمأ المسنون، فإنْ تركته حتى يجفَّ ويتماسك فهو الصلصال، فهذه - إذن - أطوار للمادة الواحدة التي صَوَّر الله منها آدم، ثم نفخ فيه من روحه، وهذا هو الخَلْق الأول الذي أخذ الله منه حواء، ومنهما يتمُّ التناسل والذرية. وقبل أنْ يتكلم الحق سبحانه عن خَلْق الإنسان تكلَّم عَمَّا خلقه الله للإنسان قبل أنْ يُوجد، فتكلَّم سبحانه عن خَلْق السماوات والأرضٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1] ثم تكلم عن الملائكة الذين ينزلون بالوحي إلى الرسل من البشر، ثم أنزل من السماء ماءً به تنبت الأرض. هذه كلها مُقوّمات حياة الإنسان، أوجدها الله له قبل أنْ يُوجده هو، وضمن له مُقومات حياته المادية والمعنوية الروحية، المادية بالقوت طعاماً وشراباً وهواءً، والروحية بالمنهج والقرآن لذلك قال سبحانه:ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } [الرحمن: 1-3]. فالإنسان خُلِق لغاية، كالصانع يحدد غاية الشيء المصنوع قبل أنْ يبدأ فيه، وقُلْنا: إن الذي صنع التليفزيون أو الثلاجة لم يصنعها ثم قال: انظروا فيمَ تُستخدم هذه الآلة، إنما قدَّر غايتها، وحدَّد هدفها قبل صناعتها، كذلك الحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان قدَّر حركته في الحياة وما يسعده فيها، فوضع له منهج القرآن قبل أن يُخْلق، ثم جاء خَلْق المادة بعد وَضْع المنهج. والحق سبحانه حينما يتكلَّم عن خلق الإنسان، يقول: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [فاطر: 11] فجاء الأسلوب كأنه يتحدث عن غائب، ولم يقُلْ سبحانه أنا خلقتُكم، فكأننا نقول: الله خلق الإنسان من تراب ذلك لأن وسائل الخطاب بين متكلم ومخاطب تأتي على ثلاث صور: ضمير المتكلم أنا، أو ضمير المخاطب أنت، أو ضمير الغائب هو. فالمتكلم حين يتكلم يقول: أنا فعلتُ. من الجائز أن يُكذِّب، فإنْ خُوطِب: أنت فعلت. من الجائز أنْ يُنافق، لكن إذا جاء الأسلوب بصيغة الغائب: هو فعل، فقد برئنا من الادعاء في المتكلم، ومن النفاق في المخاطب. وحين نقول هو خلق يعني: ليس هناك غيره، وسبق أن قلنا: إن ضمير الغائب هو لا ينصرف إلا إلى الحق سبحانه وتعالى. وإذا استقرأتَ آيات الخَلْق في القرآن الكريم تجدها بأسلوب الغيبة في مائة وسبع آيات، بداية من قوله تعالى فى سورة البقرة:هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29] وآخره سورة الفلق:قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7